الإمارات ... اشتباك بعيد عن الاستدارة
نستطيع القول إن زيارة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي إلى تركيا والالتقاء بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعتبر الحدث الأبرز والأهم على الساحة الإقليمية، لما لها من انعكاسات لا على العلاقات الثنائية بين البلدين فحسب بل على واقع ومستقبل المنطقة كلها.
وفي ذات السياق كانت زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد مؤخراً إلى دمشق والالتقاء بالرئيس السوري بشار الأسد، فقد شكلت الزيارة انعطافة نوعية تجاه انفتاح الدول العربية على سوريا وتبني مقاربة جديدة تحاول أعادة دمشق إلى محيطها العربي، والعمل من الداخل لإيجاد حلول لأزمة لم تعُد مقبولة ولا يمكن التعايش معها على ذات المنوال.
الزيارتان وما قد يلحقهما من لقاءات وزيارات مستقبلية أخرى لا بُد وأن تقرأ في سياقها الأوسع، إذ لا يمكن اعتبارها استدارة في السياسة الخارجية الإماراتية كما يصفها البعض، بقدر ما هي امتداد لسياسة قائمة وواضحة منذ سنوات طويلة.
السياق التاريخي لدولة الإمارات لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن سياستها الخارجية، وهو سياق ضروري لفهم الواقع الحالي، فدولة الإمارات ومنذ تأسيسها في العام 1971 تبنت سياسة خارجية اتسمت بالتوازن والانحياز تجاه الاستقرار والتنمية، ورغم اشتباكها في السنوات القليلة الماضية مع عدد من الملفات الإقليمية والدولية، إلا أن هذا الاشتباك لم يتقاطع نهائياً مع تركيزها على الاستقرار والمستقبل وترسيخ مكانتها الاقتصادية، فما يميزها هو القدرة على التفاعل مع المستجدات والحيوية في التأثير.
نموذج الحكم الذي انتقل بالدولة من إمارات الساحل المتصالح إلى عهد الدولة الاتحادية، والحفاظ على كيان الاتحاد رغم النفوذ والقوى المحيطة به، والعواصف التي كانت تمر بالمنطقة، وتجارب الفشل التي مُنيت بها جميع تجارب الوحدة العربية وفوضى الانقلابات، هذا النموذج ما كان لينجح في ظل كل هذه التحديات دون قدرة على قراءة المتغيرات وتشبيك المصالح وحلحلتها باتزان وحنكة سياسية.
ولفهم أكثر لا بُد من التعريج على السياق العالمي فالمشهد الدولي معقد ومتشابك إذ يمر بمرحلة مخاض أقرب إلى الصراع بين قوى مهيمنة وأخرى طامحة لكسر هذه الهيمنة، وهناك استدارة أمريكية نحو منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها، بالتزامن مع توجهات وقرارات واشنطن الانفرادية بشكل زعزع ثقة العديد من الحلفاء الأوروبيين قبل الشرق أوسطيين، وهذه كله إلى جانب تداعيات تفشي جائحة كوفيد 19 وانعكاساتها على الدول.
في السياسة وعلاقات الدول لا يوجد مفاجآت وقد يكون غير المتوقع هو الأقرب للحدوث، فلكل حدث سياقاته ودوافعه وقبل ذلك توقيته وظروفه، وهذا الطرح يتماشى مع ما يحدث اليوم من تفاعل وحراك دبلوماسي إقليمي.
السياقات السابقة تساعدنا على فهم أقرب للواقع بشأن تحرك الإمارات ودبلوماسيتها النشطة التي تعمل حالياً على تعزيز التواصل والتعاون الإقليمي، وتخفيض مستوى التوترات في المنطقة.
فكفكة التوترات الإقليمية، عبر بناء الجسور والوقوف على المشتركات وإدارة الاختلافات عبر الحوار وتعظيم المصالح بين الدول إطار عمل معلن في دولة الإمارات، إذ أن الجهد الدبلوماسي للدولة لطالما كان يدور في فلك تعزيز الازدهار والاستقرار وحماية المصالح، فالمتغير يتمثل في الأداة وموائمة الميكانزيمات مع الظروف والمستجدات لا في جوهر السياسة، لذلك فإن ما تقوم به حالياً هو فعل استباقي لإيجاد قاعدة من المصالح المشتركة بين دول المنطقة تضمن تعزيز السلم والاستقرار الإقليمي، في ظل الاستدارة الأمريكية وما ترتب على ذلك من هزة قوية للثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها.
الانفتاح الإماراتي على مختلف دول المنطقة لا يمكن الحديث عنه باعتباره من طرف واحد، فهذا قصور واضح في الفهم السياسي، فأي تقارب أو تعاون لا بُد له من طرفين أو عدة أطراف، والقناعة التي وصلت إليها العديد من الدول هي أن الإقليم لا يحتمل التصعيد، وأن استمرار حالة التوتر والصراع ستدفع ثمنها كافة دول المنطقة، لذلك لا بُد من الانفتاح الإقليمي البيني وعدم الرهان كثيراً على القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة، لذلك فمن الواضح أن الحراك الحالي هو في صميمه بحث في أوجه الاختلافات عبر الحوار المباشر والفاعل وتمهيد الأرضية له بشراكات ومشاريع اقتصادية تنعكس على تنمية المنطقة كلها، وهذا المسار من الطبيعي أن ينعكس ايجاباً على حلحلة الخلافات والتعامل معها باتزان وعقلانية.
ما تقوم به الإمارات على أرض الواقع هو استخدام محسوب للدبلوماسية، لتحقيق عدة أهداف رئيسية هي: التعامل مع الواقع الدولي الجديد بفعل استباقي، خفض التصعيد ونزع فتيل أي مواجهات ليست في مصلحة أحد، خلق شراكات وعلاقات قائمة على تبادل المنافع والمصالح وحماية نموذج التنمية، فتح مسارات جديدة لاقتصادها الذي يتمتع بإمكانيات هائلة بحاجة إلى سوق ضخم لاستيعابها، قطع الطريق على الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي لطالما وجدت في الاختلافات بين دول الإقليم نقاط ضعف يمكن المرور عبرها.
الدبلوماسية التي تقودها الإمارات تسعى إلى الدفع باتجاه أن تأخذ دول المنطقة زمام المبادرة فيما يتعلق بشؤونها والانتقال بها من مرحلة الصراعات والنزاعات إلى مرحلة التنمية الشاملة عبر تعزيز وتشبيك المصالح وترابط الاقتصاد وتعميم فوائد التنمية.
بالمحصلة فإن قراءة التحركات الإماراتية الأخيرة باعتبارها استدارة وتغييراً للمسار السياسي قراءة قاصرة وليست في محلها، فالإمارات ومنذ تأسيسها تبنت مفهوم التنمية باعتبارها الوسيلة الأكثر نجاعة لتجاوز التحديات وبناء أرضية صلبة من الثقة المتبادلة.