"منصف" صياد بدرجة فدائي.. 5 عمليات سطرت بطولة "زارع الألغام"
02:04 مالجمعة 06 أكتوبر 2017
السويس- حسام الدين أحمد:
لكل وطن جنود، بعضهم معروف في كتب التاريخ، وفضاء الإعلام، وبعضهم غير معروف اختار أن يظل بعيدا عن الشهرة والأضواء.
رغم أن هؤلاء الأبطال، ألقوا بأنفسهم طواعية وراء خطوط العدو، لتنفيذ أصعب المهام الحربية بلا غطاء جوي، ولا حماية أرضية، ليعودوا بنصر محقق نفخر به نحن، لكنهم كانوا يخفوه عن أقرب المحيطين بهم، وعن أنفسهم في سبيل السرية التامة أحد عناصر صناعة النصر، ورغم وقوعهم في الأسر لكنهم كانوا وما زالوا يرون ان أرواحهم رخيصة إذا كانت في سبيل الوطن.
كان لأبناء
دور بارز في معارك الاستنزاف، وتنفيد العمليات الفدائية، في تلك المرحلة التي يعتبرها العسكريون بمثابة الإعداد لنصر أكتوبر 1973، وكان أبناء المدينة الباسلة أول من تم تجهيزه لتلك المرحلة، وذلك عقب حرب يونيو 1967.
من على فراش المرض بمستشفى
العام، يرقد السيد محمد منصف، قبل إجراء عملية جراحية له بعد غد السبت، كان البطل أحد الصيادين الذين نقلوا الجنود الشاردين في صحراء
عقب النكسة، وشارك فيما بعد فى العميات التي كانت تتم على الضفة الشرقية لإلحاق خسائر بالعدو الإسرائيلي، حتى تم أسره عام 69.
إنقاذ الجنود
"في 9 يونيو 1967، استدعانا مكتب المخابرات الحربية، وطلب منا الضابط المسؤول الذهاب للضفة الشرقية للقناة، ومساعدة الجنود المصابين والعودة بهم للسويس"، يتحدث السيد منصف الذي تجاوز عامه الـ 71، من عمره، عن أول مهمة أوكلت له وأصدقاءه الصيادين.
يقول منصف الصياد، إن الضباط بالمكتب دربوهم على كيفية إسعاف الجنود، وضرورة ألا يعطوهم الماء أو الطعام دفعة واحدة، وإلا ساءت حالتهم، مع تجنب حمل أي سلاح يجدوها لأن المحتل الإسرائيلي كان يراهم بعينه وسيهاجمهم إذا رآهم يأخذون الأسلحة.
يتحدث عن المشهد في أرض
ويقول: "كنا نتحرك فجرا من السويس، كل صياد في فلوكة ونصل لسيناء قبل طلوع الشمس نبحث في المناطق الصحراوية قرب عيون موسى ورأس سدر ومفارق متلا عن الجنود ونعود بهم للشاطئ.. كانت الجروح وحرارة الشمس نالت منهم، لكن الأذى الذي لحق بنفوسهم كان أشد".
يصمت قليلا ويضع يده بموضع الألم بجانبه الأيمن، حيث سيجري تلك العملية التي تأخر كثيرا فيها، يعاود الحديث مرة أخرى من صفحات الذكريات، ويضيف: "كنا نسقيهم قطرات ماء، ثم بعض اللقيمات، ومع تحسن حالتهم نقدم لهم العصير، قبل نقلهم إلى فلُك الصيد والعودة بهم للسويس".
واستطرد: "استمرينا على ذلك الوضع 17 يوما نخرج فجرا ونعود مع غروب الشمس، وفي كل مرة نعود بما يقرب من 20 إلى 30 جندي مصاب وجريح، نسلمه بمنطقة الخور إلى رجال الجيش المصري".
عقب ذلك أبلغ الضباط الصيادين، بانتهاء دورهم وأن من يريد أن يكمل ويساعد في العمليات مرحبا به، فوافق جميع الصيادين ووفروا أفضل وسيلة للانتقال.
غبة البوص
"أبى جميع الصيادون إلا أن يستمروا في هذه المعركة" فقد خلفت حرب يونيو داخلهم ألما يصعب أن تداويه الكلمات، والهزيمة أدركتهم عندما شاهدوا الجنود فرداى شاردين في الصحراء بعد أن دمرت معسكراتهم ومزقتهم نيران العدو، واكتشاف أن كل ما تبثه الإذاعة المصرية عن قرب دخول الجيش المصري لتل أبيب وإسقاط 50 طائرة كذب وخداع.
جمع الضابط المسؤول عن المجموعة الصيادين بمنطقة "غبة البوص" بالسخنة جنوب السويس، وهناك تلقوا تدريبات مكثفة على أيدي ضباط من الصاعقة والاستطلاع، عن استخدام الأسلحة والاشتباك وفك وتجميع الأسلحة بمختلف أنواعها وفك وتركيب الألغام بالطرق وكيفية إلحاق خسائر كبيرة بالعدو بعد التسلل لخطوطه الخلفية.
يتذكر الصياد أول تلك المهام، والتي تمثلت في نقل بعض الضباط وعناصر الاستطلاع إلى البر الشرقي للقناة، وعناصر الضفادع البشرية التي كانت تنفذ تجمع المعلومات وتنفذ العمليات.
ثم بدأ الصيادون في المعاونة بتلك العمليات وزراعة الألغام على الطرق، والمدقات وذلك بوضعها في المنحنيات الضيقة، في طريق مركبات العدو.
5 عمليات
يحكي الفدائي منصف عن العمليات التي شارك بها وكانت خمس عمليات، "أول عملية كانت في عام 68 خرجت في لنش وزملائي من منطقة الزعفرانة وبعد وصولنا لمنطقة واستهدفنا الطريق الخاص بالدوريات الإسرائيلية، بمنطقة (اللاجايا) بجنوب سيناء، وزرعنا الألغام التي دمرت مردعتين وأسفرت عن مقتل 7 جنود.
كانت العملية الثانية بعدها بأسبوع ونصف خلالها الصياد وزملاءه كمين لمدرعتين قرب ساحل خليج السويس، بنفس منطقة.
تفجير حافلة الجنود
أما العملية الثالثة كانت أشهر العمليات التي نفذها الصيادين، في الأول من يناير عام 1969، ويروي منصف: "أتحركنا من
بالليل، وصلنا لمنطقة كشران قبل أبوزنيمة على الساحل، زرعت أنا وزمايلي الألغام على مدق جبلي، في منطقة معينة كان عندنا معلومات بميعاد مرور حافلة جنود إسرائيليين، كانوا في طريقهم إلى تل أبيب لقضاء إجازة".
كان لهذه العملية وقع كبير ليس فقط في إسرائيل بل حظيت باهتمام عالمي، ويشير منصف إلى أن العملية أسفرت عن مقتل 42 جنديا كانوا في أتوبيس ومردعتين للتأمين، وأحدثت خللا في الأوساط الإسرائيلية ترجمته إذاعة لندن ومحطات العالم التي ظلت تتحدث عن العملية "فضلت تتكلم عن العملية 3 أيام".
كانت منصف سعيد بما صنع وزملاءه، كلما مر من أمام مذياع سمع الخبر حمدالله على نصرهم، لكن دون أن يخبر أحد بأنه من صناع ذلك النصر، "مكانش ينفع أقول لحد إني أنا اللي زرعت الألغام اللي فجرت الأتوبيس.. كانت العمليات سر".
ويضيف: "كان الوحيد اللي عارف إني بنفذ عمليات عم عبدالمحسن هداية، كان بقال في حارتنا بعتبره في مقام أبويا، ولما كنت أخرج وعارف أني هنفذ عملية أقوله الليلة دي هغيب، فيعرف أنا رايح فين.. وده بس علشان لو مرجعتش أهلي يلاقوا اللي يطمنهم عليا".
الوقوع في الأسر
كانت العملية الرابعة أقل وطأة في التنفيذ، وأشد في الجهد المبذول، حينما كلفت القيادة في
الصيادين بنقل معدات وأسلحة وألغام إلى ضباط وجنود العمليات الخاصة الذين تسللوا سرا لسيناء.
كان الوصول لمكان الهدف، يستلزم صعود جبل "الوعر" بجنوب سيناء، يقاوم فيها المتسلقون الجاذبية والطقس البارد لمسافة 3 كيلو مترات هي ارتفاع الجبل، وبعد الوصول ترك المهمات بمنطقة معينة وعاد.
بعد أسبوعين من تفجير أتوبيس كشران، كانت قوات الاحتلال أكثر حيطة وحذرا واتخذت من السفن التجارية ساترا لها بخليج السويس، تختبئ داخله لمباغته المجاهدين والفدائيين.
فجر يوم 15 يناير عام 1969، تحرك المجاهد السيد منصف وزملاءه الفدائيين، ووضعوا الألغام قرب منطقة حمام فرعون لاستهداف دورية أخرى، وخلال عودتهم بالقرب من منطقة أبوزنيمة، كانت سفينة تجارية قادمة من اتجاه الجنوب، كان على متنها جنود إسرائليين متخفين.
"تحول علينا النار من البنادق والمدافع، اشتبكنا معاهم لحد ما حاصرونا، كنا سبعة في اللنش" لحظة الوقوع في الأسر كانت قاسية على المجاهدين السبعة، يعلمون أن القادم فصول متتالية من الآلام، ومحاولة دهس كرامتهم وإهانتهم وأنهم لن يسكتوا، ولذلك عليهم ان ينالوا جرعات مضاعفة من الألم.
يتذكر منصف أسماء المجاهدين الذين أسروا معه: "كان في 6 غيري أحمد حسن عروق، المغاوري إبراهيم دعبس، وحسن علي أحمد عرابي من السويس، وهو الوحيد اللي اتصاب بطلقتين في الاشتباك قبل الأسر".
أما عن بقية المجموعة فكانوا 3 عربان من بدو
هم حسن الكيلاني بدوي من عيون موسى، وعواد عودة سلمي من عرب أبوزنيمة، وسلامة التيس من القسيمات بوسط سيناء.
الصليب الأحمر
"بعد الإمساك بنا اقتادونا إلى تمركز قوات الاحتلال بأبوزنيمة، وضعونا بالحجز، ثم نقلونا في الصباح إلى منطقة أبورديس، ومن هناك وضعونا في طائرة إسرئيلية نقلتنا حتى سجن "صرافنت" في تل أبيب، وهو سجن حربي" هكذا كانت رحلتم للوصول إلى السجن الإسرائيلي لكنها كانت البداية فقط بحسب ما يروي الصياد.
"هناك كان في انتظارنا ضباط الموساد الإسرائيلي، الذين استجوبونا وشهد على تعذيبنا، وإرغامنا على على التحدث بشتى الطرق، والافصاح عن باقي المجموعات لكن ذلك لم يحدث، حتى عادوا إلى مصر في تبال الأسرى بعد 14 شهرًا من الأسر في السجون الإسرائيلية.
يكشف المجاهد منصف، أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر كانت تتابع أحوال الاسرى في السجون المصريين والسوريين سواء العسكريين أو المدنيين الإسرائيلية، لكن القوات المحتلة كانت تنقلهم من سجن لآخر كلما علمت بوصول اللجنة.
"كعب داير" هكذا يصف منصف الشهور الستة الأولى التي قضاها بالأسر هو وزملاءه، وبعد 3 شهور من بقائهم بسجن صرافنت، بتل أبيب، قاسوا فيها أشد أنواع التعذيب النفسي والبدني، نقلوهم إلى سجن غزة، ثم إلى سجن " أشتيلون".
سب ضابط موساد
في محطة سجن "اشتيلون"، نقل الجنود منصف إلى غرفة التحقيق، مكث هناك ساعات حتى وصل ضابط موساد إسرائيلي، يصف المجاهد المشهد فيقول "دخل الغرفة، سألني عن مجموعات الفدائيين، وبعدين قالي عبدالناصر مجنون هو ماله باليمن وفلسطين، كنتم ممكن نبقي أصدقاءنا لولا الورطة دي".
ينفعل منصف في حديثه، ويقول "شتمت الضابط قلتله أنتم مجانين وصيع وعصابات اتجمعتم في أرض مش ليكم" يصمت قليلا المجاهد وهو على فراش المرض، تلمع عيناه من دمعه يحبسها ثم يكمل قائلا: "كنت بحب عبدالناصر ومكانش ينفع أسكت، كنا مدركين إن الموت مصيرنا لا محالة فما لوش داعي الخوف".
لكن الضابط لم يصمت أمام سب وإهانة الصياد المصري، ضربه بعكب مسدسه في صدره، ثم أمر بالحراس الذين انهالوا عليه ضربا مدة تزيد عن نصف ساعة بالعصي: " سحبوني على شجرة في ساحة السجن وربطوني فيها 3 أيام بدون أكل أو مية، لحد ما فقدت الوعي ومحستش بنفسي إلا وأنا عريان على مرتبة قش وبترعش".
نتيجة للألم والجروح، ساءت الحالة الصحية للصياد، فنقلته قوات الاحتلال الى مستشفى اللد الإسرائيلي لتلقي العلاج، فهم ما زالوا بحاجه الى ما لديه من معلومات يظنوا انه سيبوح بها.
مدرس إنجليزي من حماس
كانت المستشفى مكان لعلاج أسرى الحرب، بعد 3 أسابيع من العلاج استعاد منصف صحته، كان في سرير مجاور له النقيب سليم دوزي، ضابط مخابرات سورية، سقط في أسر العدو، بعد إصابته بطلقة في مؤخرة الظهر، لكن لم يستفيدوا منه شيئا وكان أشد كرها لهم من منصف وبدا ذلك واضحا من معاملته لهم.
كانت منصف يخشى ذلك الرجل في البداية، لكن بعد أن اطمأن له أخبره بما حدث له ولزملائه، فسأله الضابط السوري عن زيارة الصليب الأحمر، لكن منصف لم يفهم ما يقصد فهو لم يعرف بشان اللجنة الدولية حتى ذلك الحين.
طمأن النقيب سليم الصياد المصري، وأخبره أن وفد لجنة الصليب سيزور المستشفى بعد يومين، وبمجرد أن وصل أعصاء الوفد حتى جذبهم سليم إلى الحجرة قائلا: "في مصري هنا عايز يشوفكم".
"كانوا كلهم بيتكلموا إنجليزي، قلت اسمي وبياناتي لكن مندوب المنظمة لا يفهم العربية فقالي تحب مين يترجملك.. كان في العنبر المواجه لينا 2 ضباط أسرى من حركة فتح، أحدهما كان مدرس إنجليزي، فطلبت مساعدته".
ويضيف أنه أخبر أعضاء اللجنة عن زملاءه الستة الذين أخفتهم القوات الإسرائيلية بسجن اشتيلون، وقدم بياناتهم كلها وعنابر الحجز الموجودين فيها، وكان ذلك سببا في الوصول إليهم وكشف خسة العدو في معاملة الأسرى، الذين أخفوا عن اللجنة وجود أسرى مدنيين وهو أمر مخالف للقانون الدولي والاتفاقيات التي وقع عليها قيادات العدو.
كانت الشهور الثمانية المتبقية قبل تبادل الاسرى، أكثر لطفا، لم تخلو من التعذيب لاستخراج المعلومات وتلذذ الإسرائيليين بالأذي النفسي والبدني، لكن أوراق الخطابات التي كان يكتب على نصفها لأسرته، ويسلمها مندوبي الصليب الأحمر، لمصر فتصل لأهله وتعود ليقرأ ما كتبوه بالنصف الأخر تهون عليه أيام الأسر.
سعت منظمة الصليب الأحمر في تلك الشهور، إلى عقد اتفاقية تبادل أسرى بين الجانبين، وفي مارس 1970 تم الأمر، كان الاتفاقية تتضمن تبادل 2 طيارين إسرائيليين سقطا في أسر المخابرات المصرية بعد ضرب طائراتهما، وفي المقابل طيار مصري سقطت طائرتة في العريش، على أن يعود مقابل طيار، ومجموعته التي تضم 7 مجاهدين، و7 جنود من القوات الخاصة المصرية، مقابل الطيار الأخر.
طيار مصري
كان منصف ومجموعته، والجنود السبعة، والرائد الطيار نبيل سعيد، يستعدون على الساحل الشرقي لخليج السويس، لاستقلال لنش لجنة الصليب الأحمر، يروي الصياد ذلك المشهد الذي زادهم فخرا وجعلهم يعودون رافعين رؤوسهم لا تعنيهم أي آلام أو جروح تركها التعذيب.
"كان في بعض قيادات الموساد والجيش الإسرائيلي حاضرين، في جنرال إسرائيلي قرب من الرائد نبيل سعيد، ابتسم وقال له: أتمنى مشوفكش تاني يا سعيد، لكن الطيار المصري نظر إليه بحدة وقال: طول ما فيا نفس هطلع بالطيارة واضرب فيكم لحد ما تخرجوا من سينا أو أموت"
عاد الفدائيون المصريون سالمون إلى أرض الوطن، وتم نقلهم إلى مدينة القنطرة في الإسماعيلية، ثم إلى القاهرة وظلوا بمقر مكتب المخابرات 3 أيام، ومنها غادر كل منهم إلى أسرته التي استقبلته استقبال الابطال.
"طلبنا نكمل عمليات لكن قيادة المخابرات رفضت" يقول منصف ويشير إلى أن مشاركة المدنيين الذين وقعوا في الأسر مرة أخرى في العمليات الفدائية أمر خطير وبحكم القانون الدولي يعتبروا مجرموا حرب وعقابهم الإعدام حال سقوطهم في يد العدو.
عقب انتهاء الحرب، كرم الرئيس أنور السادات الفدائيين فى السويس، وكان منصف من بينهم وحصل على نوط الامتياز من الطبقة الأولى تقديرًا لما قدمه في خدمة القوات المسلحة في فترة الإعداد للحرب، كما تم تكريمه من مجلس القبائل العربية ومحافظة السويس.