الألواح العاجيّة: أقدم كتابة مكتشفة في التاريخ البشري:
منذ العام ١٩٨٨ تغيّر مفهوم أصل الكتابة عند الباحثين، وأعيدت كتابة التاريخ مرّة أخرى، حيث اكتشفت عالم الآثار الألماني جونتر دراير Günter Dreyer في موقع أم القعاب عند أبيدوس بصعيد مصر عن مقبرة عظيمة ترجع إلى عصر نقادة IIIa2 وقد كشفت التنقيبات عن واحدة من أهم الكنوز الأثرية في التاريخ البشري، بطاقات عاجية بسيطة الحجم كثيرة العدد احتوت على صفحاتها أقدم كتابة مصرية أعادت كتابة تاريخ الكتابة.
قبل اكتشاف مقبرة أم القعاب كان مشاع في الوسط الأثري أنّ أقدم الأدلّة الكتابية التي تمّ العثور عليها تأتي من بلاد الرافدين، من مدينتي أوروك وكيش (تنقيبات ١٩١٢- ١٩٣٩)، حيث عثر على أقدم الكتابات البدائية السومريّة في بلاد ما بين النهرين، وعدّت حينها أقدم كتابة في التاريخ البشري، واللوح المسمّى "لوح كيش"، وهو أقدم مثال كتابي من بلاد الرافدين، يؤرّخ بين ٣٣٠٠ و ٣١٠٠ قبل الميلاد، ولسوء الحظ فاللوح الأصلي الذي كان بالعراق قد ضاع ولم يتبقى منه سوى نسختين: الأوّلى بمتحف أشموليان والثانية في المتحف البريطاني، ولا يمكن بالطبع الاعتماد عليهما للتأريخ الكربوني الدقيق لأنها أعمال نسخية وليس اللوح الأصلي. رُقّمت على اللوح بعض الأرقام على الأرجح والرموز التي عليه لا يمكن الاعتماد عليها نظرا لكونها لم تدخل في عملية نشوء الكتابة المسماريّة لاحقا وحروف الكتابة السومرية فلا يمكن الاعتماد عليه أكاديميا. كما يوجد لوح أخر يمثّل الكتابة يعود للعام ٣٢٠٠ قبل الميلاد، من فترة أوروك الرابعة، غير أنّه لا يحتوي على كلمات واضحة وصريحة يمكن تفسيرها، لكن تمّ الترجيح بأنّ علاماته تشير إلى تجارة وبضاعة ما. لكن أهمّ الألواح التي أمكن الاعتماد عليها والّذي احتوى على كلمات كاملة وحروف تغلغلت إلى المخزون الكتابي المسماري السومري لاحقا هو ذلك اللوح المؤرّخ بالعام ٣١٠٠ قبل الميلاد، الّذي يذكر العالم كريستوفر وودز Christopher Woods بأنّ: «هذه الألواح تتحدّث عن إحصاء عدد العبيد المملوكين لشخص ما، وعن خدمة مجموعة من العبيد لعائلة ما».
في يوم ١٩ ديـسمبر ١٩٩٨ في تصريحات خاصّة أدلى بها جونتر دراير، أعلنت مجلّة نيويورك تايمز: «اكتشاف نقوش تُشير إلى أنّ المصريّين قد يكونون أوّل من يكتب».
لقد هدّمت المفاهيم الأركيولوجية القديمة، وتغيّرت نظرة الوسط الأكاديمي الاثري باكتشاف أقدم الكتابات المصرية المعروفة إلى اليوم، حيث اكتشفت في المقبرة (U-j) في أم القعاب، وهي جبانة ملكية تعود لعصري ما قبل الأسرات وبواكير عصر الأسرات في موقع أبيدوس بصعيد مصر. استكشفت أُمُّ القعاب (أي أم الجرار) سابقا عام ١٨٩٦ من قبل إميل أميلينو Émile Emélineau الذي يُعتقد أنه قد قام بحفائر بمجاورة غرفة المقبرة U-j. ومن ثمّة بدأ و.م فليندرز پتري W.M. Flinders Petrie حفائر في أبيدوس، أين اكتشف رُقعا عدّة وبطاقات من المكان الذي يحيط مباشرة بالمقبرة. ومنذ السبعينات من القرن التاسع عشر، أعاد اكتشاف الموقع جونتر دراير Günter Dreyer من المعهد الألماني للآثار ووصل لنتائج جديدة وهامّة جدا.
المقبرة U-j الّتي تؤرّخ بـحوالي ٣٣٢٠ قبل الميلاد، هي مقبرة من الطوب اللبن مستطيلة الشكل وبها اثنتا عشرة غرفة متواصلة، وجدرانها مطليّة بالطين، دعاماتها من خشب السنط وسقفها على شكل حصير.
بعض الباحثين وضعوا فرضية أنّ المقبرة خطّطت استنادا لتخطيط قصر من عصر ما قبل الأسرات، مع غرفة وسطيّة محاطة بغرف مرتبطة؛ لكن للأسف لم تبقى أية قصور من ذلك العصر. من بين اللقى المثيرة التي عُثر عليها في المقبرة كانت صولجانا من العاج، قطع من حاويات مواد تجميل من الأصداف، ونصل من حجر الأبسديان.
المقبرة U-j تعرف جيدا بثلاث أشكال لسجلاّت إدارية مميزة، وهي على شكل أواني كتب عليها بمداد (حبر)، أختام، وبطاقات.
مساحة المقبرة، محتوياتها، وكميّة الجهد على بنائها والتركيب الّتي تطلبته دفعت بعديد الباحثين لاقتراح نسب المقبرة إلى حاكم مبكّر حكم قطعة جغرافية كبيرة من عصر نقادة الثالثة.
في عديد غرف المقبرة، عثر الباحثون على شقافات جِرار، يعتقد أنها أجزاء من ٨٠٠ آنية وعلى بعض الأواني منها، حُفظت ١٢٥ كتابة بالمداد. قسّم الباحثون الرموز المرسومة على هذه الأواني إلى مجموعتين:
١- رموز رئيسية:
مثال: عقارب، قواقع البحر الأحمر، أسماك، عقبان، وقوارب.
٢- رموز ثانوية:
مثال: أشجار، قصب، خطوط أفقية وعمودية.
في غرف أخرى بالمقبرة، عثر على قرابة ٧٠٠ جرة تم توريدها، وهي مختلفة عن الجرار المصرية، واعتقد أنّ مأتاها من جنوب الشام وتحتوي على نبيذ راتنجي نقعت به ثمار تين. هذه الأواني غطّت بقماش أو بجلد مربوط بحبال، ومختومة بطين مصري على كل ختم أسطواني ملفوف. لقد تمّ العثور على حوالي ٢٥٠ قطعة مختومة. كل الأختام تحمل زخرفا في الوسط، ويتضمن هذه الزخارف إطار ذي نماذج هندسية.
أخر مجموعة من السجلاّت الإدارية التي عثر عليها في المقبرة U-j كانت بطاقات. ومن بين المئتي بطاقة التي تمّ العثور عليها، فجُلّها مصنوع من العظم أو العاج (والقليل فقط من الحجر) وقد نقش عليها رموز وثُقبت. معظم البطاقات تمثّل تجسيدات لشخوص وحيوانات من مختلف الأنواع: الربع منها عليه أرقام، يعتقد أنها تمثّل أطوال الأقمشة. كما عثر الباحثون على صناديق من خشب الأرز تحتوي على حزم من الأقمشة وألعاب عاجية. ويعتقد أن هذه البطاقات كانت في الأصل مربوطة لهذه السلع.
الدلائل الكتابية من المقبرة U-j، خاصة البطاقات العاجيةـ التي أرخت كربونيا على يد جونتر دراير بالعام ٣٣٢٠ قبل الميلاد، من المحتمل أنّها تُبيّن كميّات السلع، ومناطق داخل مصر وخارجها. أمّا نظام الكتابة المصرية فبدوره قد خضع سابقا إلى تطوّرات هامّة منذ عصر المقبرة U-j. والمصطلحات اللغويّة تسهّل علينا تحديد وحدات اللغة التي ساعدت على التواصل في مصر المبكّرة من تعبيرات تصويرية فقط بدأت كلغة على الأقل قبل ٣٧٥٠ قبل الميلاد (حيث عثر على عديد الرسوم بمختلف الأماكن في مصر خاصة في وادي الحمامات) إلى كتابة منطوقة، وهي هامة في تحديد طبيعة المواد التصويرية المبكّرة:
١- رسم لفظي: رموز تمثّل كلمات معيّنة.
٢- رسم صوتي: رموز تمثل أصواتا معيّنة.
٣- مُخصّصات: رموز تستخدم في تصنيف الكلمات.
كما نجد صدى أقدم للرموز الهيروغليفي المكتوب على بطاقات أبيدوس العاجية، في النقوش الحجرية السابقة في المواقع الممتدة شرقا وغربا في الصحارى المصرية وبعض المواقع الأخرى، ثمّ نجد لها صدى في المخزون الكتابي المصري في العصور اللاحقة.
فضلًا على ذلك، تظهر الكتابات على البطاقات العاجية أنّ نظام الكتابة المصري قد طوّر مبدأ الكناية، الذي يضمّ معنى الرموز لبيّن ألفاظها المتجانسة- كلمات لها نفس الصوت لكن ذات معانٍ مختلفةٍ. على سبيل المثال، عديد البطاقات من المقبرة U-j تحمل صورة فيل على قمة جبل: وهي كلمة (أبو) في اللغة المصرية القديمة والّتي تشير إلى اسم جزيرة ألفنتين. تركيب الرموز هذا يبيّن مقارنات مقنعة على شواهد لاحقة. وباستخدام مفهوم الكناية، فالمكان الذي تشير إليها الرموز ليس (ألفنتين [أبو]+ جبل/تبّة/تلة [خاست]) ولكن اسم المدينة نفسها ألفنتين (أبو). والمخصص الّذي هو على شكل جبل يعني أن التركيب ككل هو اسم مكان، على سبيل المثال، مدينة أو قرية.
عُثر على حوالي ٥٠٠ نقش من المقبرة U-j وهي تؤرخ بـ ٣٣٢٠ قبل الميلاد إلى نهاية عصر ما قبل الأسرات حوالي العام ٣١٥٠ قبل الميلاد. ويبدو كذلك أن أقدم الكتابات تلعب دور البيانات لصور ومشاهد أكبر، وهي تنسّق أسماء مع بعضها البعض في جمل قصيرة، ولاحقا وفّرت مواد نصيّة أخرى بشكل جزئي دليل قطعي على قواعد اللغة وبرهنت على أولى الاستخدامات في مصر لأشكال فعلية متغيّرة (مثال: حتپ -غنم.و: "ليرضى خنوم") وهو اسم علم يرجع لفترة حكم الملك نعرمر، قبل حوالي ٣١٥٠ ق.م).
يظهر نظام الكتابة المصري أنّه قد تطوّر قواعديا في فترة حكم الملك دن (حوالي ٣١١٠- ٣٠٢٠ قبل الميلاد)، عندما اكتمل المخزون الهيروغليفي أكثر أو أقل بشكل كامل. أوّل الأمثلة النهائية على أفعال مصرّفة تؤرخ بعصر الملك پـريبسن (قبل ٢٦٨٦ قبل الميلاد) - صيغة فعلية في زمن الماضي، وتقرأ: د(مـ)چ.ن=ف، أي "دمج، وحّد، ضمّ".
دليل نقائشي من أواخر عصر ما قبل الأسرات (وحتّى في بواكير عصر الأسرات، ٣١٥٠-٢٨٦٨ قبل الميلاد) غالبا ما قدّم إحالات على مُؤَنٍ، ضرائب وإيرادات.
أشياء أخرى، خاصة أشياء شعائرية مزخرفة، تعبّر عن سلطة الحاكم من خلال علاقته ببعض الأرباب. وهكذا، فاستخدام الكتابة في هذه المرحلة المبكرة من التاريخ المصري ربط بشكل معقّد مع الحكومة المزدهرة، والقدرات الإدارية والأيديولوجية المسيّرة (مثال: رموز ملكية وصفويّة).
في عصر الأسرات المبكر، استخدمت الهيروغليفية المصرية في مواطن مختلفة: بطاقات، أختام، علامات على جرار، قطع جنائزية متنوّعة، وقطع لها خواص أخرى تحمل أسماء وألقاب الملوك، أعضاء من الأسرة الملكيّة، وأشخاص معيّنين، بالإضافة إلى السلع التي ربطت بها بعض من هذه القطع. وباستخدام بعض العناصر في قواعد اللغة المصري في عصرها القديم (متأتية من نقوش من عصر المملكة القديمة، ٢٨٦٨-٢١٦٠ قبل الميلاد)، وكذلك مع الدراسات الأحدث للغة المصرية في عصرها القديم، فالنقوش على هذه القطع العائدة إلى بواكير عصر الأسرات تُترجم بالتأكيد ولو بشكل جزئي.