ويرجع سبب زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى الكونجرس إلى قيام تركيا بانتهاك المجال الجوي اليوناني بطائرات تركية مسلحة فوق جزر بحر “إيجه” الشرقية بشكل يومي بالقرب من “ألكسندروبوليس” في نطاق 2.5 ميل بحري من المدينة الشمالية الشرقية، مع تهديدات تركية أخرى بأن أنقرة ستعارض سيادة الجزر اليونانية في شرق بحر إيجه إذا لم تكن منزوعة السلاح.
وقد أثار ميتسوتاكيس تقويض وحدة الناتو وانتهاكات المجال الجوي اليوناني من قبل الطائرات التركية في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، عندما أخبر المشرعين الأمريكيين أن اليونان “لن تتسامح مع التحليقات الجوية التي لا تتوقف”، وأضاف أن “الناتو لا يحتاج إلى مصدر توتر آخر في شرق البحر المتوسط لأنه يتعامل مع العدوان الروسي في أوكرانيا”، وبالطبع كانت تركيا المقصودة، ولكن تركيا خرجت عن صمتها وقالت إن تصريحات أثينا لا تعكس الواقع، وأن اليونان تثير التوترات، لذلك من الطبيعي أن يرد سلاح الجو التركي على “الاستفزازات” وفقًا لقواعد الاشتباك.
واتهم الرئيس التركي رئيس الوزراء اليوناني بالسعي إلى منع بيع طائرات مقاتلة أمريكية الصنع من طراز إف -16 إلى تركيا خلال زيارته للولايات المتحدة، وبالتحريض على عدم رفع الحظر المفروض على تركيا في برنامج شراء الجيل القادم من الطائرات المقاتلة F-35. ولم تكن هذه هي محاولات المنع الوحيدة، فقد حث أيضًا النائب الأمريكي الديمقراطي فرانك بالوني وأكثر من 50 مشرعًا آخر إدارة بايدن والحكومة الأمريكية على رفض مثل هذه الصفقات، مشيرين إلى عدم التزام أردوغان تجاه الناتو، بعد أن فُرضت عقوبات على أنقرة خلال إدارة ترامب لشراء تركيا منظومة الدفاع الجوي “S-400” من روسيا، منتهكة بذلك قواعد الناتو، فضلًا عن انتهاكات أردوغان الجسيمة لحقوق الإنسان.
ولكن يبدو أن كل هذا الغضب التركي نابع أيضًا مما يثار مؤخرًا بأن تركيا تتخذ موقفًا استفزازيًا وتعرقل خطط توسع حلف شمال الأطلسي، خاصة بعد تهديد أردوغان بأنه لن يسمح بانضمام فنلندا والسويد إليه، بسبب فرض البلدين حظرًا على توريد الأسلحة إلى تركيا في عام 2019 في أعقاب العملية العسكرية التركية في شمال سوريا التي استهدف وحدات حماية الشعب (YPG)، ومتهمًا إياهم بإيواء أعضاء ميليشيات كردية تشكل خطرًا على تركيا، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف على أنه “منظمة إرهابية” من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة،. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل قال علانية إن السماح بإعادة قبول أثينا في الكتلة الأمنية في عام 1980 كان خطأ.
وترى أنقرة أن الوضع القائم حاليًا سيمكنها من فرض شروطها مستغلة طلب انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، ولذلك نجدها تتشدد في تنفيذ مطالبها، ليس لهدف وقف أنشطة التنظيمات المعارضة لها من السويد وفنلندا وتسليم المطلوبين فحسب، وانما أيضًا لتقديم خدمة لموسكو ترى أنها ستخدم الأجندة التي تعمل عليها في شمال سوريا.
ويبدو أن أنقرة تراهن على عامل الزمن، من باب أن انضمام الدولتين إلى حلف الناتو سيستغرق وقتًا سيحصل خلاله تطورات وتداعيات تغير من الوضع القائم، خاصة مع تواصل تقدم القوات الروسية في أوكرانيا رغم بطئه، ولكنها في نفس الوقت ستحاول تعويض تراجعها باتخاذ أي موقف متشدد ضد اليونان.
اللاجئون ونقطة العبور إلى دول الاتحاد الأوروبي
من أبرز تداعيات الحرب في سوريا أنها أدت إلى تدفق ملايين اللاجئين إلى تركيا التي رأى الكثيرون أنها نقطة انطلاق نحو حياة جديدة تبدأ من حلم الوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة “اليونان”. فشهد عام 2015 وصول أكثر من مليون لاجئ إلى الاتحاد الأوروبي، بينما مات الآلاف في حوادث غرق جماعي، ما جعل الاتحاد يوقع اتفاقًا تاريخيا بعد هذا العام مع أنقرة، تحت اسم “عدم القبول” ينص على وقف تدفق المهاجرين مقابل الحصول على حوافز تشمل مساعدات مالية بلغت قيمتها 6 مليارات يورو في صورة معونة من الاتحاد الأوروبي للمهاجرين واللاجئين.
ونصت الاتفاقية أيضًا على أن مقابل كل شخص سوري يُعاد من اليونان إلى تركيا، سوف يعاد توطين آخر من تركيا في أوروبا، بالإضافة إلى تسهيل حصول الأتراك على تأشيرات الدخول لدول الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن دفع الاتحاد الأوروبي ملف قبول تركيا لتصبح من دوله الأعضاء، وبالفعل انخفضت أرقام الواصلين إلى اليونان انخفاضًا حادًا بعد هذه الاتفاقية.
وتمتد الحدود البرية بين اليونان وتركيا مسافة 150 كيلومترا، لتصبح أهم المعابر الرئيسة للمهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجد في ملف المهاجرين ورقة ضغط قوية للغاية واستغلالًا لأي موقف، فلطالما استخدم تهديد فتح حدود بلاده للمهاجرين باتجاه أوروبا، سعيًا منه للحصول على تنازلات من بروكسل، وبالفعل انساق الكثير من اللاجئين وراء تصريحاته وحاولوا العبور إلى اليونان، ليجدوا أنفسهم ما بين مناوشات واعتقالات وترحيلات وأوضاع قاسية تصل إلى الموت أحيانًا.
وتخشى أثينا الآن أن يستغل أردوغان التوترات الحالية بين البلدين، بعد أن أعلن الرئيس التركي أنه لا يعترف بـ “ميتسوتاكيس” رئيس الوزراء اليوناني، متهمًا إياه باستعداء تركيا، وهذا يعني قطع المحادثات بين الجانبين، وقد يصعد أردوغان الأمر ويستخدم المهاجرين مرة أخرى كوسيلة ضغط يشهرها متى شاء في وجه خصومه، مثلما فعل عام 2020، عندما أعلن فتح الحدود مع اليونان عند نهر “إيفروس”، وسمحت أنقرة بتوجه آلاف المهاجرين واللاجئين إلى الحدود اليونانية، فاحتشد الآلاف من الراغبين بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي على الحدود، وعبر الآلاف من الأشخاص الحدود بهذه الطريقة ما أدى إلى خلق أزمة دبلوماسية بين البلدين بسبب انتهاك اتفاق عام 2016 بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، والحجة كانت أن طاقة تركيا الاستيعابية للمهاجرين قد نفذت.
اليونان تحمي حدودها من تدفق ملايين اللاجئين بالـ “صد القسري”
على الجانب اليوناني، سعت أوروبا إلى حماية حدودها وعززت الدعم المقدم إلى أثينا لتحصين الحدود، وخاصة من الجانب المتعلق بمنطقة نهر “إيفروس” الممتدة على مدى 200 كم، والتي تشكل الحدود البرية الوحيدة بين تركيا واليونان، وربما لهذا السبب باتت هذه المنطقة محط شكوك المنظمات الإنسانية التي تحذر من وقوع انتهاكات جسيمة على ضفافه، وقد وُجه العديد من الاتهامات إلى حرس الحدود اليوناني بتعامله العنيف وتنفيذه عمليات صد باستخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع بحق المهاجرين الذين يحاولون العبور إلى اليونان، وصد للزوارق المطاطية التي تحاول الوصول إلى الشواطئ اليوناني.
كما اتهمت منظمات غير حكومية وكالة
“فرونتكس” -الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل المسؤولة عن تأمين حدود اليونان- بارتكاب عمليات إبعاد غير قانونية على الحدود الأوروبية، وبعد هذه الاتهامات طلب الاتحاد الأوروبي والمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة من أثينا إجراء تحقيق، وسط نفي قوي من أثينا أنها قامت بمثل هذه العمليات غير القانونية، وأنه لا يوجد أي دليل على مثل هذه الممارسات، فضلًا عن أن السلطات اليونانية تعد نهر “إيفروس” منطقة عسكرية بالكامل، لا ينبغي لأحد الاقتراب منها، وترى الاقتراب منه أمرًا يمس بالأمن القومي، وترى أيضًا أن المهاجرين قد وقعوا ضحايا الخديعة التركية.
.
وعلاوة على ذلك، أعلنت اليونان العام الماضي أن إجراءات الترحيل واللجوء إليها ستصبح أكثر صرامة وحدة، وقدمت وصاغت تشريعًا جديدًا من قبل وزارة الهجرة إلى مجلس الوزراء اليوناني يسعى إلى زيادة عمليات ترحيل اللاجئين والمهاجرين إلى اليونان، يرى فيهم تهديدًا للسلم العام، ويقتضي أن
:” عندما يتم القبض على المهاجرين على الحدود، ستستخدم السلطات اليونانية خيار الترحيل بدلًا من خيار الحجز في مخيمات لأجل الاعادة عبر المنظمات المختصة دون الحاجة إلىموافقة بلدهم الأصلي أو بلد العبور” مثل تركيا؛ إذ إن الترحيل عبر المنظمات المختصة يأخذ وقتا طويلا ويعيق مشروع الحكومة اليونانية”
.
وقد أعلنت اليونان بقرار استثنائي أن تركيا صنفت لتكون” دولة ثالثة آمنة” يمكن إعادة طالبي اللجوء المنحدرين من سوريا وأفغانستان وباكستان وبنجلاديش والصومال بطريقة غير شرعية إليها على نحو قانوني، طالما أن وجودهم هناك لا يمثل خطرًا عليهم، لتعلن اليونان بهذه القرارات أنها الدرع الأوروبي المنيع ضد اللجوء الذي سيردع المهاجرين عن دخولها والاعتصام بها.
نظام أمني متكامل
منذ ذلك الحين، قرر الاتحاد الأوروبي أن يستثمر في أبحاث أمن الحدود؛ فخصص 3 مليارات يورو لذلك، وتم العمل على طائرات مسيرة تقوم بمسح مناطق الحدود، وإرسال المعلومات إلى مراكز اتخاذ القرارات، وذلك من أجل حماية الحدود، وتشديد المراقبة الأمنية بتقنيات عالية المستوى.
وقررت اليونان أن تنشئ جدارًا حديديًا ضخمًا بارتفاع 5 أمتار وعلى امتداد 27 كم، بتكلفة 63 مليون يورو، بالإضافة إلى سياج آخر بطول 12 كم في قرية “كاستانياس” التي شهدت عبور مئات المهاجرين عام 2020. وفي عام 2021، وبعد سيطرة “طالبان” على أفغانستان، أعلنت اليونان أنها أكملت بناء 40 كم على الحدود مع تركيا؛ خوفًا من أن الأزمة الأفغانية قد تخلق مزيدًا من تدفق اللاجئين.
وتخطط اليونان لمد الجدار الفاصل إلى طول 120 كم، ساعية إلى الحصول على دعم مالي جديد من الاتحاد الأوروبي لذلك، وتكمن وظيفته الأساسية في منع اللاجئين والمهاجرين من العبور إلى دول الاتحاد الأوروبي، تحت إدارة الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل
“فرونتكس
“، التي زودته بتقنيات متطورة، وكاميرات مراقبة، وأجهزة بصرية حرارية، ورادار، وأجهزة استشعار ممتدة بطول الجدار للحصول على صور دقيقة أثناء الوقت الفعلي لمحاولة عبور أي مهاجر، على أن يراعي هذا السياج الطبيعة الجغرافية للحدود بين البلدين.
وتمت مراعاة شكل بناء الجدار الذي يسمح برؤية كل ما يحدث على الجانب الآخر، فصمم بفواصل متساوية ومتوازية تساعد أيضًا في مرور المياه خلال الفيضانات والأمطار الغزيرة، ولعل المميز فيها مقارنة بالجدران الخرسانية أنها مصممة لتكون سهلة التشييد والتركيب.
ووضعت في شمال وجنوب منطقة نهر إيفروس تحديدًا، أجهزة صوتية “مدافع صوتية” تفوق الطائرات النفاثة صوتًا، وتستخدم لصد تدفقات المهاجرين في حال عبرت مجموعات منهم الحدود دفعة واحد، فهي ليست مدافع حقيقية، وإنما هي أجهزة صوتية بعيدة المدى، تصدر صوت صفارات إنذار عالية. وسترصد هذه الأجهزة اللاجئين والمهاجرين في عمق الأراضي التركية، وتحدد مواقعهم بطريقة سريعة ودقيقة، ما يسهل على الحرس الوطني اليوناني نشر قواته بفاعلية أكبر، وبالتالي تقليل عمليات عبور الحدود والسيطرة عليها.
ووفقًا لكل ما سبق، رغم اشتداد وتيرة الخلاف بين تركيا واليونان، واستغلال اللاجئين كورقة في هذا الصراع، لا يتوقع أن تنتهي انتهاكات المجال الجوي اليوناني في القريب العاجل، فأردوغان يستغل هذه الورقة أيضًا من أجل مشاحنة اليونان، وبينما تعد اليونان وتركيا حلفاء في حلف الناتو نظريًا، فإن العلاقة المتوترة بينهما تهدد بشكل مستمر باندلاع صراع مفتوح، مما يبقى السؤال حول احتمالات اندلاع صراع عسكري بين عضوي الناتو مفتوحًا.
المصادر: