كان عام 1966 ملتهباً بالأحداث، مليئًا بالمشاكل، منذرًا بالشرر. الغرب كله متكتل ضد عبد الناصر. العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي فاترة بعد تلكؤ مصر في الاستجابة لطلبه بإقامة منطقة للاستطلاع الجوي. الخلافات مشتعلة بين العالم العربي. هكذا أطل عام 1967 .. العام الحزين.
كانت علاقاتنا مع الغرب سيئة للغاية، وعلاقاتنا مع السوفيت فاترة. وعلاقاتنا مع بريطانيا مقطوعة، وكان هناك عدد من المشاكل تبعد أي أمل للتقارب، فمشكلة الجنوب اليمني المحتل ومصالح بريطانيا في الخليج العربي تتناقض كلية مع سياساتنا، كما أن الولايات المتحدة بالرغم من قيام علاقات دبلوماسية بيننا وبينها، فإن سياستها الخارجية كانت تسعى منذ سنوات إلى حصارنا سياسياً واقتصادياً. فمصالحها في المنطقة تتعارض مع سياسة مصر في مساندة الحركات التحررية. أما ألمانيا الغربية، فعلاقتنا معها كانت مقطوعة منذ صفقة الأسلحة السرية التي عقدتها مع إسرائيل.
وفضلاً عن ذلك، فإن حركة المد الثوري والقومية العربية أزعجت الغرب بصفة عامة. وكانت الدول العربية المحافظة، وبخاصة السعودية، والأردن تسير في ركاب الغرب وتعتمد اعتماداً كلياً على مساعدته.
كان الفدائيون الفلسطينيون يشددون هجماتهم وغاراتهم من سوريا على إسرائيل. وكانت الحكومة السورية تعاونهم وتشجعهم.. ولم تقف إسرائيل مكتوفة اليدين، فقامت بعدد من الغارات الانتقامية على مواقع الفدائيين.. ولم يستطع عبد الناصر أن يفعل شيئاً أكثر من التنديد بإسرائيل، وانتظر خصومه العرب الفرصة ليهاجموه هجوماً عنيفاً، فهو - على حد قولهم - يحارب إخوانه العرب في اليمن، بينما يقف مكتوف الأيدي، مختبئًا وراء قوات الطوارئ الدولية، لا يناصر إخوانه العرب إزاء العدوان الإسرائيلي.
أما في إسرائيل، فكانت حكومة "أشكول" تواجه متاعب تثيرها الأجنحة المتطرفة التي تطالب بالقيام بعمل انتقامي ضد سوريا، مما دفع حكومة أشكول في أبريل 1967 إلى دفع الطيران الإسرائيلي للإشتباك مع الطيران السوري وأسفر الاشتباك عن سقوط 7 طائرات سورية وتحليق الطائرات الإسرائيلية فوق دمشق.
نالت الأردن نصيبها أيضًا من الاعتداءات الإسرائيلية، ففي 13 نوفمبر 1966 شن الطيران الإسرائيلي غارات على قرية السموع بالأردن أدت إلى مقتل 18 أردني وإصابة 54. ظهر بعدها "وصفي التل" رئيس الوزراء الأردني وأتهم مصر وسوريا بعدم تحمل نصيبهم من مواجهة إسرائيل وألقى باللوم على مصر لإخفاقها في توفير الدعم الجوي، وأشار إلى أن الوقت قد حان لكي تنهي مصر تورطها في حرب اليمن.
بعد الانتقادات الأردنية والسورية، وجد عبد الناصر - الذي يعتبر نفسه زعيمًا للأمة العربية - في هذه الانتقادات، أمرًا يكاد يتعذر احتماله.
استمرت غارات الفدائيين وتصاعدت شدتها في مايو 1967، وفي 11 مايو، أدان "ليفي أشكول" هذه الاعتداءات وبدأ يصدر تهديداته تجاه سوريا تحديداً. وكان لدى السوريين إحساس عميق بأن بلادهم قد تتعرض للغزو فأسرع الرئيس السوري "نو الدين الأتاسي" يطلب معونة عبد الناصر، الذي نسى كل خلافاته مع حزب البعث السوري. وكان إحساس عبد الناصر يكمن في أن إسرائيل لو استطعت غزو سوريا فسيكون هدفها التالي هو سيناء.
هنا يكمن السؤال الذي حيّر الكثيرين، ماذا كانت تريد إسرائيل حينئذ؟ هل كانت تريد غزو سوريا غزوًا شاملاً؟ أم رغبت في توجيه ضربة وقائية؟ أم كان هدفها القيام بعمليات ردع محدودة؟
في رأي "صلاح نصر" مدير المخابرات العامة المصرية، إن ذهن القيادة الإسرائيلية كان مشغولاً بمصر، حيث كان يدور في أذهان القيادة الإسرائيلية سؤالاً واحدًا حول مدى تأثير الضربات على "عبد الناصر" وما هي ردود فعله وكانت هذه لعبة سياسية هدفها نصب الشراك لعبد الناصر، وحتى يقع في الفخ، كان مطلوبًا أن يلقى إليه طعم ما وكان هذا الطعم في صورة معلومات غير صحيحة تصل إليه بطريقة غير مباشرة لتوحي إليه بأن إسرائيل تنوى القيام بغزو شامل لدمشق للقضاء على النظام الحاكم. وجاء هذا السبيل بواسطة تسريب معلومات زائفة عن حشود إسرائيلية على حدود سوريا إلى السفارة السوفيتية في تل أبيب، كما عمدت إسرائيل إلى إرسال إشارات لاسلكية بالشفرة كي تلتقطها سفن الأسطول السوفيتي في البحر المتوسط.
وقامت حكومة تل أبيب بدعوة أعضاء السفارة السوفيتية لزيارة الحدود الإسرائيلية - السورية للإيحاء إليهم بأن الجيش الإسرائيلي قد سحب تشكيلاته المدرعة من احتفال عرض يوم الاستقلال في 15 من مايو، وذلك من أجل القيام بعملية كبرى.
كان هذا هو الطعم الذي ألقته إسرائيل في الفخ الذي نصبته لعبد الناصر، وقد قام الروس بإرسال هذه المعلومات إلى عبد الناصر.
وحينما أرسل الروس هذه المعلومات إلى عبد الناصر لم يقف مترددًا بل أسرع وابتلع الطعم، ففي 15 مايو أعلن حالة الطوارئ العامة وحرك بعض القوات إلى سيناء. وقام عبد الناصر بتكليف الفريق محمد فوزي رئيس أركان القوات المسلحة المصرية بإرسال طلب إلى قائد قوات الطوارئ الدولية الجنرال "ريكي" يطلب منه سحب بعض قوات الطوارئ الدولية، كي تتمكن بعض القوات المصرية من احتلال مواقع معينة على حدود سيناء مع إسرائيل، حتى تتجنب قوات الطوارئ الدولية أي خطر نتيجة مواجهة القوات المصرية بالقوات الإسرائيلية. وحينها تشاور "ريكي" مع "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة والذي استدعى السفير "محمد عوض القوني" مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة وأبلغه بأن الطلب يُعد "طلب انسحاب كُلي" ولما كان السفير "محمد عوض" لا يملك هذا القرار فبعث برسالة إلى مصر وهنا كان أمام عبد الناصر خيارين أحلاهما مُر، فأما التراجع وخسارة الهيبة والتعرض للهجوم والسخرية، وأما المخاطرة والتعرض لصدام مسلح مع إسرائيل. وقرر عبد الناصر اللجوء للخيار الثاني.
وكان عبد الناصر لا يزال يركز في ذهنه صدمة حرب السويس 1956، معتقدًا أن إسرائيل لن تكون قادرة على خوض حرب على جهتين ما لم تعتمد على قوة الغرب في تقديم غطاء جوي على الأقل كما حدث سنة 1956. وكان عبد الناصر يرى أيضًا أن الغرب لو فعل ذلك مع إسرائيل فإن الاتحاد السوفيتي لن يسكت، وسوف يكون رد فعله مؤثرًا على الموقف.
ولذلك أراد عبد الناصر أن يظهر لإسرائيل أنه قادر على إفشال خططها، بإظهار مصر مصرة على القتال لو هاجمت سوريا، وكان يأمل في حالة اشتراك الغرب والاتحاد السوفيتي في الموقف العسكري، أن تنشأ أزمة دولية بحرص كلا الطرفين على تجنبها. كما كان عبد الناصر يرى أن تحريك القوات المصرية إلى سيناء سوف ينهي المسألة بأن تبتلع إسرائيل الطعم وتنتهي الأزمة بسلام.
والواقع أن هذا الإحساس كان قويًا لدى عبد الناصر إلى حد أنه أعلنه في مؤتمر حضره في القيادة العامة بعد إصدار الأمر بإغلاق المضائق بقوله: "لو مرت الأيام الثلاثة التالية دون حرب فإن الأزمة سوف تنتهي بسلام."
على أنه ينبغي في هذا المقام ألا ننسى أنه في منتصف مايو كُلف الفريق محمد فوزي بالسفر إلى سوريا للوقوف على حقيقة الموقف، ولكن البعث أبلغه أن الموقف ليس خطيرًا كما تتصوره القاهرة، وأن الهدف من إرسال المعلومات إلى القاهرة عن التحشدات الإسرائيلية أمام سوريا لم يكن هدفه سوى وضع القاهرة في الصورة لما يجري في المنطقة. وهذا يشير بنوع ما إلى توريط النظام السوري لعبد الناصر فيما اتخذه من قرار سحب القوات الدولية وما تبعه من إغلاق المضائق، مما أدى إلى تدهور الموقف في المنطقة، ونشوب أزمة أدت إلى حرب يونيو سنة 1967.
موقف الولايات المتحدة
كان موقف الولايات المتحدة متناقضًا، فبينما كانت تُلوح باستخدام القوة، كانت تطلب ضبط النفس من كافة الأطراف وأوفد الرئيس "جونسون" مبعوثاً من وزارة الخارجية يدعُى "تشارل بوست" يحمل رسالة من جونسون يطلب فيها فك حصار الخليج وعودة القوات الدولية، كما مهدت تلك الزيارة لزيارة "زكريا محيي الدين" واشنطون في 7 يونيو وهو ما لم يحدث بعد وقوع هجوم 5 يونيو.
موقف السوفيت
من المؤكد أن عبد الناصر لم يستشر السوفييت، بل إن موسكو فوجئت بقرار عبد الناصر، وكانت تريد تجنب الاصطدام مع الولايات المتحدة.. ومع أنها أبدت محاولات لتهدئة الموقف حينما تشاورت مع جورج براون وزير خارجية بريطانيا أثناء وجوده في موسكو حينئذ، فإنها اقترحت عليه أن يعقد مؤتمر ثنائي بين موسكو وواشنطن للاتفاق على أن تقوم الدولتان بعمل مشترك.
وفي يوم 27 مايو سنة 1967، قرر عبد الناصر إيفاد شمس بدران وزير الحربية إلى موسكو حاملاً رسالة خاصة من عبد الناصر إلى الزعماء السوفييت. وفي يوم 28 مايو، طار شمس بدران إلى موسكو يصحبه أحمد حسن الفقي نائب وزير الخارجية. وأبلغ "سيمنوف" نائب وزير الخارجية السوفيتي "أحمد حسن الفقي" بأنه مكلف من قبل "مجلس السوفيت الأعلى" بإبلاغ "عبد الناصر" بعدم إغلاق خليج العقبة لما يتضمنه من مخاطر. في حين زعم "شمس بدران بأن "جريتشكو" وزير الدفاع الروسي أبلغه في المطار بأن "الاتحاد السوفيتي" سيقف بجانب مصر في حالة نشوب حرب شاملة مع إسرائيل. وهذه في الواقع ترجمة غير صحيحة لما قيل له من الزعماء السوفيت الذين قالوا إنه لو تورطت أمريكا في الحرب فإن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي. ويبدو أن شمس بدران كان مقتنعًا تمامًا بأن السوفيت سيقفون لنا العون إلى درجة الاشتراك في القتال، لو اشتركت أمريكا في القتال إلى جانب إسرائيل وذلك من خلال حديثه مع جريشكو.
في كتاب "النصر المحير" للكولونيل الأمريكي "تريفور. ن. دوبوى"، يرى الكاتب أن الطرفين "مصر وإسرائيل" لم يتحليا بالرغبة في خوض حرب جديدة، ولا يتوقع أي منهما في واقع الأمر، نشوبها. بل أن الطرفان ترديا في تلك الحرب ويتعذر على المرء القول بأن مسؤولية الحرب تقع على عاتق أحد الطرفين أكثر مما تقع على عاتق الأخر لأن سلسة تصاعد الأحداث المفجعة التي أدت إلى نشوب الحرب إنما هي في الواقع بدأت في فبراير 1966 مع الانقلاب السابع عشر في سوريا.
بعد هذا الانقلاب، تقرب السوريين أكثر من الاتحاد السوفيتي الذي أمدهم بكميات كبيرة من السلاح وفي نفس الوقت شجع السوريون منظمة "فتح" على إقامة قواعد في سوريا وشن هجمات منها على إسرائيل، كما بدأت القيادة السورية الجديدة مفاوضات مع مصر انتهت بمعاهدة الدفاع المشترك في نوفمبر 1966.
تصاعد التوترات ونشوء حملة دعائية تؤكد وجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية حاولت إسرائيل نفيه عبر إستدعاء السفير السوفيتي في تل أبيب "تشوفاخين" 3 مرات أيام 12 و19 و29 مايو لزيارة شمال إسرائيل والحدود السورية لتفقد الموقف بنفسه، إلا أنه رفض الدعوة! وفي 19 مايو أشار "يوثانت" سكرتير الأمم المتحدة في تقرير إلى مجلس الأمن: "تؤكد تقارير مراقبي هيئة مراقبة الهدنة الدولية عدم وجود تحركات أو حشود للقوات على أي من جانبي خط وقف إطلاق النار".
وفي 15 مايو بدأت حشود القوات المصرية في التدفق إلى سيناء حتى بلغ عددها يوم 22 مايو ما يقرب من 100 ألف مقاتل، وفي نفس اليوم أعلن الرئيس عبد الناصر إغلاق مضيق تيران، وفي 23 مايو أعلن "ليفي أشكول" أمام الكنيست أن ما حدث يشكل عملًا عدائيًا تجاه إسرائيل.
يدعي الكاتب أن عبد الناصر رغب في إرسال رسالة سرية إلى إسرائيل مؤداها أنه لا يعتزم استخدام القوة في إغلاق المضيق، إلا أنه تراجع عن تلك الفكرة لخطورة تسريبها إلى الصحافة مما يضر بمكانته، ورغم هذا لم يكن لدى الإسرائيليين الرغبة بالمخاطرة بإحدى سفنهم التجارية لاختبار النوايا المصرية بل اعتبروا "عبد الناصر" جاد بالفعل. وفي 28 مايو وفي مؤتمر نقابات العمال العرب أعلن "عبد الناصر" أن الدول العربية الأن عازمة على تدمير إسرائيل.
كان مما دعى للتشاؤم أكثر هو التقارب المصري الأردني عندما وصل إلى مصر في 30 مايو الملك حسين، ورئيس الوزراء "سعد جماع"، ورئيس الأركان "عامر خماش" وقائد القوات الجوية "صالح الكردي" وأبرموا مع "عبد الناصر" معاهدة دفاع مشترك وقيادة عسكرية مشتركة مع مصر وسوريا تحت القيادة الأسمية المباشرة للواء المصري "علي عامر". وفي نفس اليوم عُين اللواء "عبد المنعم رياض" قائدًا عامًا للقوات المسلحة العربية على الجبهة الأردنية. وفي 2 يونيو وصل اللواء "عبد المنعم رياض" ومساعديه إلى عمان. وفي اليوم التالي وصلت 3 كتائب من الصاعقة المصرية إلى عمان. ومن وجهة نظر الإسرائيليين، كانت تلك التحركات تفسر سبب توقف نشاط المصريين المؤقت في سيناء، فقد كانت مصر تتريث بضعة أيام حتى يتسنى للأردن الاعداد للقيام بدور كامل في الحرب الوشيكة.
كانت القوات الإسرائيلية في حالة التعبئة يوم 4 يونيو 1967 تضم ما يقرب من 250 ألف جندي يشكلون ما يقرب من 25 لواء منهم 9 ألوية مدرعة و2 لواء ميكانيكي و10 ألوية مشاة (بعضها ميكانيكي) و4 ألوية مظلات. وعلاوة على هذه القوات الميدانية، كان ثمة ما يقرب من 15 لواء يشكلون وحدات الدفاع المحلية ودفاع الحدود (يضم بعضها 70 ألف جندي).
في كتاب "الانفجار" ل"محمد حسنين هيكل". أشار هيكل إلى التوجه الأمريكي المضاد لعبد الناصر وإن فكرة "حروب التحرير الوطنية" هي تكنيك جديد يجب محاربته، وأشار أيضاَ إلى قلق الملك "فيصل" لحصول ناصر على موطيء قدم في اليمن بعد انسحاب البريطانيين من الجنوب، وفي نظر "فيصل" فإن "ناصر" هو عميل للشيوعية يسعى إلى إسقاط أنظمة الحكم المعتدلة في المنطقة. لمح "هيكل" أيضاً إلى رغبة الرئيس الأمريكي "ليندون جونسون" في الخروج من مأزق فيتنام مع قرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية فراح يصدر أوامره بتكثيف التعاون مع إسرائيل أملاً أن يعطيه مسرح الشرق الأوسط ما يعوضه عن المأزق الذي يواجهه في الشرق الأقصى.
كان القرار السياسي الأمريكي هو "Unleash Israel" أو إطلاق العنان لإسرائيل ومساعدتها بكافة السبل العسكرية والاستخباراتية أيضاً ومنها على سبيل المثال "حل معظم مفاتيح الشفرة المصرية المدنية والعسكرية" والتي كانت تحت تصرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأيضاً إجراء اتصالات مع المخابرات البريطانية "M.I.6" ونتيجة لتلك الاتصالات حصلت إسرائيل على كل أوراق الخطة البريطانية للضرب الجوي الاستراتيجي الذي قامت به القاذفات البريطانية ضد الطيران المصري ابتداءً من 30 أكتوبر 1956 وحتى 2 نوفمبر وهي الأيام الثلاثة التي شهدت محاولة تدمير الطيران المصري.
أظهرت بعض الوثائق الأمريكية إن إسرائيل كانت على وشك القيام بعملية عسكرية واسعة في مارس 1967 في سوريا لتفجير الموقف ولعل هذا كان سبباً في التقارب المصري الأردني خوفاً أيضاً من المطامع الإسرائيلية في الضفة الغربية ولم تتحقق خطة العمل الإسرائيلية في مارس بل ظهرت الفرصة الأكبر في مايو وبدأت إسرائيل من 17 مايو في استدعاء الاحتياطي واعلان التعبئة الجزئية وهو معناه سحب 100 ألف من المصانع والمزارع وهذا عبء لا تستطيع إسرائيل تحمله إلا إذا كان لديها تصميم على العمل السريع.
وفي 21 مايو اجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي في منزل الرئيس عبد الناصر في منشية البكري وكان الموضوع المطروح هو "خليج العقبة". وطلب "عبد الحكيم عامر" أوامر القيادة السياسية فكان رأي عبد الناصر هو إنه بوصول طلائع القوات المصرية إلى شرم الشيخ فبالتالي ليس أمامها سوى تطبيق نفس الاجراءات التي كانت تطبقها قبل دخول قوات الطواريء وأن أي وضع غير ذلك سوف يكون انتقاصاً من حقوق السيادة ولكن هذا الإجراء سوف يرفع نسبة احتمالية الحرب إلى 50%. ورأى "عامر" أن القتال سينشب في كل الأحوال وإنه لا يمكن ضبط أعصاب القوات إذا ما رأت أمامها علماً إسرائيلياً فوق سفينة إسرائيلية. واتفق المجتمعون في النهاية على إعلان القرار في اليوم التالي بواسطة "عبد الناصر" أثناء لقاؤه بالطياريين المصريين في قاعدة "أبو صوير" الجوية. وفي صباح 22 يوليو، طلب السفير السوفيتي في مصر "ديمتري بوجداييف" مقابلة عاجلة مع عبد الناصر صباحاً إلا أن الرد جاء بأن الرئيس سوف يستقبله 8.30 مساءً بعد أن يكون أعلن بالفعل قرار غلق الخليج.
تقابل الرئيس عبد الناصر مع السفير السوفيتي وقرأ الرسالة والتي تضمنت تأييد كامل من الحكومة السوفيتية ومن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للدوافع التي أدت بمصر لطلب سحب قوات الطواريء الدولية. إلا أن السفير اعتراه الدهشة عندما علم بقرار مصر بغلق خليج العقبة. وطلب الرئيس عبد الناصر نقل رسالة مفادها "إن التأكيدات التي حصلنا عليها منكم في شأن تحركات القوات الإسرائيلية كانت عنصرًا هامًا في تحريك عجلة الحوادث. وعندما أكدتم لنا أن هناك أحد عشر لواء إسرائيليًا قد اتخذت مواقعها أمام الخطوط السورية استعدادًا لتوجيه ضربة لسوريا فإنه لم يكن في وسعي أن أترك شيئًا للمصادفات. والآن فإنني أرى أن كل حشود القوات الإسرائيلية تتجه إلى الجبهة المصرية، بينما هي خفت كثيرًا أمام الجبهة السورية. وهكذا فإن مصر أصبحت الآن هي الجبهة، وأنا أريد أن تكون هذه الحقيقة محددة أمامهم لكي يرتبوا عليها تصرفاتهم في الأيام القادمة.
ورد السفير قائلاً بالنص:
إن الحكومة أبلغتكم بما كان لديها من معلومات وقت إبلاغكم بها. ونحن الآن نرى أن الموقف في الشرق الأوسط وصل إلى درجة عالية من التوتر. ومن الواضح لنا أن الإسرائيليين لم يكن في وسعهم أن يتصرفوا على النحو الذي يتصرفون به الآن إذا لم يكونوا واثقين تمامًا من تأييد القوى الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة تؤيدهم في العملية. ومن المحقق لنا طبقًا لتحليلاتنا أن الإمبرياليين يحاولون استعادة نفوذهم ودورهم القديم في العالم العربي. ونحن نعتقد أن إسرائيل في هذه العملية هي الركيزة التي تستند إليها سياساتهم العدوانية ضد البلدان العربية المستقلة والمعادية للاستعمار.
واستطرد السفير السوفيتي قائلاً بالنص:
لكم يا سيادة الرئيس أنتم وقيادة العالم العربي أن تعرفوا أن الاتحاد السوفيتي وحكومته يقفون بحزم وراء الدول العربية المستقلة، وأن الاتحاد السوفيتي سوف ينتهج في الأيام القليلة القادمة خطًا حازمًا، وأنه إذا تطورت الأمور في اتجاه إسرائيل ــ فإننا سنتخذ الخطوات اللازمة ضد العدوان بواسطة القوى الاستعمارية ومنها بالتبعية.
وفي صباح 25 مايو، تلقى الرئيس عبد الناصر تقارير من وزارة الداخلية مؤداها أن عملية بدأت - بهدوء - لترحيل الرعايا الأمريكيين في مصر، وبعد ساعات كانت الصحف الأمريكية تحمل هذا التأكيد. كما تلقى خبراً بأن الولايات المتحدة دعت إلى تكوين "قوة بحرية مشتركة" على أساس أن قيام مصر بتقييد الملاحة الاسرائيلية في الخليج يعتبر تعرضاً لمبدأ حرية البحار وتلقى أيضاً تقريراً من المخابرات الحربية المصرية في غزة بأن الجنرال "أودبول" كبير مراقبي الهدنة قال لضباطه أن "إسرائيل متشوقة للحرب الأن". كما كانت مجموعة الاستطلاع والتنصت اللاسلكي البحري بقيادة العقيد "محمود نديم" قد التقطت إشارات مفادها توجه عدد من الوحدات البحرية الأمريكية والبريطانية إلى البحر المتوسط وتوجه حاملة طائرات إضافية إليها.
وفي نفس اليوم دُعي "أبا أيبان" وزير الخارجية الاسرائيلي إلى غرفة عمليات الشرق الأوسط في البنتاجون حيث اجتمع مع "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال "أيرل هويلر" وأثناء استعراض كل الاحتمالات وجه الجنرال "هويلر" حديثه إلى "أبا أيبان" بقوله: "سواء بدأ المصريون الحرب أو أنتم فالنتيجة واحدة. فنحن ليس لدينا شك في مدى كفاءتكم" ثم أضاف "حسابات المعركة كلها في صالحكم. هذه تقديرات جميع خبراءنا ولم يعترض منهم أحد". ذكر "ريتشارد هيلمز" مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أيضاً أنه تعجب من استعجال الإسرائيليين. ففي ذلك الوقت كانوا يطلبون ما يحتاجونه من المخازن الأمريكية ليس بالأنواع ولكن بالأرقام الكودية السرية للأسلحة!
في اليوم التالي تقابل "أبا أيبان" مع الرئيس الأمريكي "جونسون" والذي طلب من "أيبان" الصبر قليلاً حتى يضمن التأييد العالمي وتحييد الاتحاد السوفيتي، وتعهد جونسون بالوقوف بجانب إسرائيل وأنه سوف يستعمل كل وسائل القوة المتاحة لدعم موقفهم. ودارت العجلة التي أدت في النهاية إلى "ضربة صهيون" وهو الإسم الكودي للهجوم الإسرائيلي في 67.
كان عام 1967 عامًا مفصليًا في تاريخ الشرق الأوسط، حيث أدت تصرفات متسرعة وقرارات استراتيجية إلى حرب يونيو التي غيرت ملامح المنطقة. عبد الناصر، تحت ضغوط داخلية وخارجية، اتخذ قرارات أثرت على مسار الأحداث، بينما استغلت إسرائيل الفرصة لتعزيز موقعها. الحرب كشفت عن أهمية الدقة في اتخاذ القرارات والتحالفات الدولية في أوقات الأزمات، وتركت آثارًا عميقة على الصراع العربي الإسرائيلي.
كانت علاقاتنا مع الغرب سيئة للغاية، وعلاقاتنا مع السوفيت فاترة. وعلاقاتنا مع بريطانيا مقطوعة، وكان هناك عدد من المشاكل تبعد أي أمل للتقارب، فمشكلة الجنوب اليمني المحتل ومصالح بريطانيا في الخليج العربي تتناقض كلية مع سياساتنا، كما أن الولايات المتحدة بالرغم من قيام علاقات دبلوماسية بيننا وبينها، فإن سياستها الخارجية كانت تسعى منذ سنوات إلى حصارنا سياسياً واقتصادياً. فمصالحها في المنطقة تتعارض مع سياسة مصر في مساندة الحركات التحررية. أما ألمانيا الغربية، فعلاقتنا معها كانت مقطوعة منذ صفقة الأسلحة السرية التي عقدتها مع إسرائيل.
وفضلاً عن ذلك، فإن حركة المد الثوري والقومية العربية أزعجت الغرب بصفة عامة. وكانت الدول العربية المحافظة، وبخاصة السعودية، والأردن تسير في ركاب الغرب وتعتمد اعتماداً كلياً على مساعدته.
كان الفدائيون الفلسطينيون يشددون هجماتهم وغاراتهم من سوريا على إسرائيل. وكانت الحكومة السورية تعاونهم وتشجعهم.. ولم تقف إسرائيل مكتوفة اليدين، فقامت بعدد من الغارات الانتقامية على مواقع الفدائيين.. ولم يستطع عبد الناصر أن يفعل شيئاً أكثر من التنديد بإسرائيل، وانتظر خصومه العرب الفرصة ليهاجموه هجوماً عنيفاً، فهو - على حد قولهم - يحارب إخوانه العرب في اليمن، بينما يقف مكتوف الأيدي، مختبئًا وراء قوات الطوارئ الدولية، لا يناصر إخوانه العرب إزاء العدوان الإسرائيلي.
أما في إسرائيل، فكانت حكومة "أشكول" تواجه متاعب تثيرها الأجنحة المتطرفة التي تطالب بالقيام بعمل انتقامي ضد سوريا، مما دفع حكومة أشكول في أبريل 1967 إلى دفع الطيران الإسرائيلي للإشتباك مع الطيران السوري وأسفر الاشتباك عن سقوط 7 طائرات سورية وتحليق الطائرات الإسرائيلية فوق دمشق.
نالت الأردن نصيبها أيضًا من الاعتداءات الإسرائيلية، ففي 13 نوفمبر 1966 شن الطيران الإسرائيلي غارات على قرية السموع بالأردن أدت إلى مقتل 18 أردني وإصابة 54. ظهر بعدها "وصفي التل" رئيس الوزراء الأردني وأتهم مصر وسوريا بعدم تحمل نصيبهم من مواجهة إسرائيل وألقى باللوم على مصر لإخفاقها في توفير الدعم الجوي، وأشار إلى أن الوقت قد حان لكي تنهي مصر تورطها في حرب اليمن.
بعد الانتقادات الأردنية والسورية، وجد عبد الناصر - الذي يعتبر نفسه زعيمًا للأمة العربية - في هذه الانتقادات، أمرًا يكاد يتعذر احتماله.
استمرت غارات الفدائيين وتصاعدت شدتها في مايو 1967، وفي 11 مايو، أدان "ليفي أشكول" هذه الاعتداءات وبدأ يصدر تهديداته تجاه سوريا تحديداً. وكان لدى السوريين إحساس عميق بأن بلادهم قد تتعرض للغزو فأسرع الرئيس السوري "نو الدين الأتاسي" يطلب معونة عبد الناصر، الذي نسى كل خلافاته مع حزب البعث السوري. وكان إحساس عبد الناصر يكمن في أن إسرائيل لو استطعت غزو سوريا فسيكون هدفها التالي هو سيناء.
هنا يكمن السؤال الذي حيّر الكثيرين، ماذا كانت تريد إسرائيل حينئذ؟ هل كانت تريد غزو سوريا غزوًا شاملاً؟ أم رغبت في توجيه ضربة وقائية؟ أم كان هدفها القيام بعمليات ردع محدودة؟
في رأي "صلاح نصر" مدير المخابرات العامة المصرية، إن ذهن القيادة الإسرائيلية كان مشغولاً بمصر، حيث كان يدور في أذهان القيادة الإسرائيلية سؤالاً واحدًا حول مدى تأثير الضربات على "عبد الناصر" وما هي ردود فعله وكانت هذه لعبة سياسية هدفها نصب الشراك لعبد الناصر، وحتى يقع في الفخ، كان مطلوبًا أن يلقى إليه طعم ما وكان هذا الطعم في صورة معلومات غير صحيحة تصل إليه بطريقة غير مباشرة لتوحي إليه بأن إسرائيل تنوى القيام بغزو شامل لدمشق للقضاء على النظام الحاكم. وجاء هذا السبيل بواسطة تسريب معلومات زائفة عن حشود إسرائيلية على حدود سوريا إلى السفارة السوفيتية في تل أبيب، كما عمدت إسرائيل إلى إرسال إشارات لاسلكية بالشفرة كي تلتقطها سفن الأسطول السوفيتي في البحر المتوسط.
وقامت حكومة تل أبيب بدعوة أعضاء السفارة السوفيتية لزيارة الحدود الإسرائيلية - السورية للإيحاء إليهم بأن الجيش الإسرائيلي قد سحب تشكيلاته المدرعة من احتفال عرض يوم الاستقلال في 15 من مايو، وذلك من أجل القيام بعملية كبرى.
كان هذا هو الطعم الذي ألقته إسرائيل في الفخ الذي نصبته لعبد الناصر، وقد قام الروس بإرسال هذه المعلومات إلى عبد الناصر.
وحينما أرسل الروس هذه المعلومات إلى عبد الناصر لم يقف مترددًا بل أسرع وابتلع الطعم، ففي 15 مايو أعلن حالة الطوارئ العامة وحرك بعض القوات إلى سيناء. وقام عبد الناصر بتكليف الفريق محمد فوزي رئيس أركان القوات المسلحة المصرية بإرسال طلب إلى قائد قوات الطوارئ الدولية الجنرال "ريكي" يطلب منه سحب بعض قوات الطوارئ الدولية، كي تتمكن بعض القوات المصرية من احتلال مواقع معينة على حدود سيناء مع إسرائيل، حتى تتجنب قوات الطوارئ الدولية أي خطر نتيجة مواجهة القوات المصرية بالقوات الإسرائيلية. وحينها تشاور "ريكي" مع "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة والذي استدعى السفير "محمد عوض القوني" مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة وأبلغه بأن الطلب يُعد "طلب انسحاب كُلي" ولما كان السفير "محمد عوض" لا يملك هذا القرار فبعث برسالة إلى مصر وهنا كان أمام عبد الناصر خيارين أحلاهما مُر، فأما التراجع وخسارة الهيبة والتعرض للهجوم والسخرية، وأما المخاطرة والتعرض لصدام مسلح مع إسرائيل. وقرر عبد الناصر اللجوء للخيار الثاني.
وكان عبد الناصر لا يزال يركز في ذهنه صدمة حرب السويس 1956، معتقدًا أن إسرائيل لن تكون قادرة على خوض حرب على جهتين ما لم تعتمد على قوة الغرب في تقديم غطاء جوي على الأقل كما حدث سنة 1956. وكان عبد الناصر يرى أيضًا أن الغرب لو فعل ذلك مع إسرائيل فإن الاتحاد السوفيتي لن يسكت، وسوف يكون رد فعله مؤثرًا على الموقف.
ولذلك أراد عبد الناصر أن يظهر لإسرائيل أنه قادر على إفشال خططها، بإظهار مصر مصرة على القتال لو هاجمت سوريا، وكان يأمل في حالة اشتراك الغرب والاتحاد السوفيتي في الموقف العسكري، أن تنشأ أزمة دولية بحرص كلا الطرفين على تجنبها. كما كان عبد الناصر يرى أن تحريك القوات المصرية إلى سيناء سوف ينهي المسألة بأن تبتلع إسرائيل الطعم وتنتهي الأزمة بسلام.
والواقع أن هذا الإحساس كان قويًا لدى عبد الناصر إلى حد أنه أعلنه في مؤتمر حضره في القيادة العامة بعد إصدار الأمر بإغلاق المضائق بقوله: "لو مرت الأيام الثلاثة التالية دون حرب فإن الأزمة سوف تنتهي بسلام."
على أنه ينبغي في هذا المقام ألا ننسى أنه في منتصف مايو كُلف الفريق محمد فوزي بالسفر إلى سوريا للوقوف على حقيقة الموقف، ولكن البعث أبلغه أن الموقف ليس خطيرًا كما تتصوره القاهرة، وأن الهدف من إرسال المعلومات إلى القاهرة عن التحشدات الإسرائيلية أمام سوريا لم يكن هدفه سوى وضع القاهرة في الصورة لما يجري في المنطقة. وهذا يشير بنوع ما إلى توريط النظام السوري لعبد الناصر فيما اتخذه من قرار سحب القوات الدولية وما تبعه من إغلاق المضائق، مما أدى إلى تدهور الموقف في المنطقة، ونشوب أزمة أدت إلى حرب يونيو سنة 1967.
موقف الولايات المتحدة
كان موقف الولايات المتحدة متناقضًا، فبينما كانت تُلوح باستخدام القوة، كانت تطلب ضبط النفس من كافة الأطراف وأوفد الرئيس "جونسون" مبعوثاً من وزارة الخارجية يدعُى "تشارل بوست" يحمل رسالة من جونسون يطلب فيها فك حصار الخليج وعودة القوات الدولية، كما مهدت تلك الزيارة لزيارة "زكريا محيي الدين" واشنطون في 7 يونيو وهو ما لم يحدث بعد وقوع هجوم 5 يونيو.
موقف السوفيت
من المؤكد أن عبد الناصر لم يستشر السوفييت، بل إن موسكو فوجئت بقرار عبد الناصر، وكانت تريد تجنب الاصطدام مع الولايات المتحدة.. ومع أنها أبدت محاولات لتهدئة الموقف حينما تشاورت مع جورج براون وزير خارجية بريطانيا أثناء وجوده في موسكو حينئذ، فإنها اقترحت عليه أن يعقد مؤتمر ثنائي بين موسكو وواشنطن للاتفاق على أن تقوم الدولتان بعمل مشترك.
وفي يوم 27 مايو سنة 1967، قرر عبد الناصر إيفاد شمس بدران وزير الحربية إلى موسكو حاملاً رسالة خاصة من عبد الناصر إلى الزعماء السوفييت. وفي يوم 28 مايو، طار شمس بدران إلى موسكو يصحبه أحمد حسن الفقي نائب وزير الخارجية. وأبلغ "سيمنوف" نائب وزير الخارجية السوفيتي "أحمد حسن الفقي" بأنه مكلف من قبل "مجلس السوفيت الأعلى" بإبلاغ "عبد الناصر" بعدم إغلاق خليج العقبة لما يتضمنه من مخاطر. في حين زعم "شمس بدران بأن "جريتشكو" وزير الدفاع الروسي أبلغه في المطار بأن "الاتحاد السوفيتي" سيقف بجانب مصر في حالة نشوب حرب شاملة مع إسرائيل. وهذه في الواقع ترجمة غير صحيحة لما قيل له من الزعماء السوفيت الذين قالوا إنه لو تورطت أمريكا في الحرب فإن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي. ويبدو أن شمس بدران كان مقتنعًا تمامًا بأن السوفيت سيقفون لنا العون إلى درجة الاشتراك في القتال، لو اشتركت أمريكا في القتال إلى جانب إسرائيل وذلك من خلال حديثه مع جريشكو.
في كتاب "النصر المحير" للكولونيل الأمريكي "تريفور. ن. دوبوى"، يرى الكاتب أن الطرفين "مصر وإسرائيل" لم يتحليا بالرغبة في خوض حرب جديدة، ولا يتوقع أي منهما في واقع الأمر، نشوبها. بل أن الطرفان ترديا في تلك الحرب ويتعذر على المرء القول بأن مسؤولية الحرب تقع على عاتق أحد الطرفين أكثر مما تقع على عاتق الأخر لأن سلسة تصاعد الأحداث المفجعة التي أدت إلى نشوب الحرب إنما هي في الواقع بدأت في فبراير 1966 مع الانقلاب السابع عشر في سوريا.
بعد هذا الانقلاب، تقرب السوريين أكثر من الاتحاد السوفيتي الذي أمدهم بكميات كبيرة من السلاح وفي نفس الوقت شجع السوريون منظمة "فتح" على إقامة قواعد في سوريا وشن هجمات منها على إسرائيل، كما بدأت القيادة السورية الجديدة مفاوضات مع مصر انتهت بمعاهدة الدفاع المشترك في نوفمبر 1966.
تصاعد التوترات ونشوء حملة دعائية تؤكد وجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية حاولت إسرائيل نفيه عبر إستدعاء السفير السوفيتي في تل أبيب "تشوفاخين" 3 مرات أيام 12 و19 و29 مايو لزيارة شمال إسرائيل والحدود السورية لتفقد الموقف بنفسه، إلا أنه رفض الدعوة! وفي 19 مايو أشار "يوثانت" سكرتير الأمم المتحدة في تقرير إلى مجلس الأمن: "تؤكد تقارير مراقبي هيئة مراقبة الهدنة الدولية عدم وجود تحركات أو حشود للقوات على أي من جانبي خط وقف إطلاق النار".
وفي 15 مايو بدأت حشود القوات المصرية في التدفق إلى سيناء حتى بلغ عددها يوم 22 مايو ما يقرب من 100 ألف مقاتل، وفي نفس اليوم أعلن الرئيس عبد الناصر إغلاق مضيق تيران، وفي 23 مايو أعلن "ليفي أشكول" أمام الكنيست أن ما حدث يشكل عملًا عدائيًا تجاه إسرائيل.
يدعي الكاتب أن عبد الناصر رغب في إرسال رسالة سرية إلى إسرائيل مؤداها أنه لا يعتزم استخدام القوة في إغلاق المضيق، إلا أنه تراجع عن تلك الفكرة لخطورة تسريبها إلى الصحافة مما يضر بمكانته، ورغم هذا لم يكن لدى الإسرائيليين الرغبة بالمخاطرة بإحدى سفنهم التجارية لاختبار النوايا المصرية بل اعتبروا "عبد الناصر" جاد بالفعل. وفي 28 مايو وفي مؤتمر نقابات العمال العرب أعلن "عبد الناصر" أن الدول العربية الأن عازمة على تدمير إسرائيل.
كان مما دعى للتشاؤم أكثر هو التقارب المصري الأردني عندما وصل إلى مصر في 30 مايو الملك حسين، ورئيس الوزراء "سعد جماع"، ورئيس الأركان "عامر خماش" وقائد القوات الجوية "صالح الكردي" وأبرموا مع "عبد الناصر" معاهدة دفاع مشترك وقيادة عسكرية مشتركة مع مصر وسوريا تحت القيادة الأسمية المباشرة للواء المصري "علي عامر". وفي نفس اليوم عُين اللواء "عبد المنعم رياض" قائدًا عامًا للقوات المسلحة العربية على الجبهة الأردنية. وفي 2 يونيو وصل اللواء "عبد المنعم رياض" ومساعديه إلى عمان. وفي اليوم التالي وصلت 3 كتائب من الصاعقة المصرية إلى عمان. ومن وجهة نظر الإسرائيليين، كانت تلك التحركات تفسر سبب توقف نشاط المصريين المؤقت في سيناء، فقد كانت مصر تتريث بضعة أيام حتى يتسنى للأردن الاعداد للقيام بدور كامل في الحرب الوشيكة.
كانت القوات الإسرائيلية في حالة التعبئة يوم 4 يونيو 1967 تضم ما يقرب من 250 ألف جندي يشكلون ما يقرب من 25 لواء منهم 9 ألوية مدرعة و2 لواء ميكانيكي و10 ألوية مشاة (بعضها ميكانيكي) و4 ألوية مظلات. وعلاوة على هذه القوات الميدانية، كان ثمة ما يقرب من 15 لواء يشكلون وحدات الدفاع المحلية ودفاع الحدود (يضم بعضها 70 ألف جندي).
في كتاب "الانفجار" ل"محمد حسنين هيكل". أشار هيكل إلى التوجه الأمريكي المضاد لعبد الناصر وإن فكرة "حروب التحرير الوطنية" هي تكنيك جديد يجب محاربته، وأشار أيضاَ إلى قلق الملك "فيصل" لحصول ناصر على موطيء قدم في اليمن بعد انسحاب البريطانيين من الجنوب، وفي نظر "فيصل" فإن "ناصر" هو عميل للشيوعية يسعى إلى إسقاط أنظمة الحكم المعتدلة في المنطقة. لمح "هيكل" أيضاً إلى رغبة الرئيس الأمريكي "ليندون جونسون" في الخروج من مأزق فيتنام مع قرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية فراح يصدر أوامره بتكثيف التعاون مع إسرائيل أملاً أن يعطيه مسرح الشرق الأوسط ما يعوضه عن المأزق الذي يواجهه في الشرق الأقصى.
كان القرار السياسي الأمريكي هو "Unleash Israel" أو إطلاق العنان لإسرائيل ومساعدتها بكافة السبل العسكرية والاستخباراتية أيضاً ومنها على سبيل المثال "حل معظم مفاتيح الشفرة المصرية المدنية والعسكرية" والتي كانت تحت تصرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأيضاً إجراء اتصالات مع المخابرات البريطانية "M.I.6" ونتيجة لتلك الاتصالات حصلت إسرائيل على كل أوراق الخطة البريطانية للضرب الجوي الاستراتيجي الذي قامت به القاذفات البريطانية ضد الطيران المصري ابتداءً من 30 أكتوبر 1956 وحتى 2 نوفمبر وهي الأيام الثلاثة التي شهدت محاولة تدمير الطيران المصري.
أظهرت بعض الوثائق الأمريكية إن إسرائيل كانت على وشك القيام بعملية عسكرية واسعة في مارس 1967 في سوريا لتفجير الموقف ولعل هذا كان سبباً في التقارب المصري الأردني خوفاً أيضاً من المطامع الإسرائيلية في الضفة الغربية ولم تتحقق خطة العمل الإسرائيلية في مارس بل ظهرت الفرصة الأكبر في مايو وبدأت إسرائيل من 17 مايو في استدعاء الاحتياطي واعلان التعبئة الجزئية وهو معناه سحب 100 ألف من المصانع والمزارع وهذا عبء لا تستطيع إسرائيل تحمله إلا إذا كان لديها تصميم على العمل السريع.
وفي 21 مايو اجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي في منزل الرئيس عبد الناصر في منشية البكري وكان الموضوع المطروح هو "خليج العقبة". وطلب "عبد الحكيم عامر" أوامر القيادة السياسية فكان رأي عبد الناصر هو إنه بوصول طلائع القوات المصرية إلى شرم الشيخ فبالتالي ليس أمامها سوى تطبيق نفس الاجراءات التي كانت تطبقها قبل دخول قوات الطواريء وأن أي وضع غير ذلك سوف يكون انتقاصاً من حقوق السيادة ولكن هذا الإجراء سوف يرفع نسبة احتمالية الحرب إلى 50%. ورأى "عامر" أن القتال سينشب في كل الأحوال وإنه لا يمكن ضبط أعصاب القوات إذا ما رأت أمامها علماً إسرائيلياً فوق سفينة إسرائيلية. واتفق المجتمعون في النهاية على إعلان القرار في اليوم التالي بواسطة "عبد الناصر" أثناء لقاؤه بالطياريين المصريين في قاعدة "أبو صوير" الجوية. وفي صباح 22 يوليو، طلب السفير السوفيتي في مصر "ديمتري بوجداييف" مقابلة عاجلة مع عبد الناصر صباحاً إلا أن الرد جاء بأن الرئيس سوف يستقبله 8.30 مساءً بعد أن يكون أعلن بالفعل قرار غلق الخليج.
تقابل الرئيس عبد الناصر مع السفير السوفيتي وقرأ الرسالة والتي تضمنت تأييد كامل من الحكومة السوفيتية ومن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للدوافع التي أدت بمصر لطلب سحب قوات الطواريء الدولية. إلا أن السفير اعتراه الدهشة عندما علم بقرار مصر بغلق خليج العقبة. وطلب الرئيس عبد الناصر نقل رسالة مفادها "إن التأكيدات التي حصلنا عليها منكم في شأن تحركات القوات الإسرائيلية كانت عنصرًا هامًا في تحريك عجلة الحوادث. وعندما أكدتم لنا أن هناك أحد عشر لواء إسرائيليًا قد اتخذت مواقعها أمام الخطوط السورية استعدادًا لتوجيه ضربة لسوريا فإنه لم يكن في وسعي أن أترك شيئًا للمصادفات. والآن فإنني أرى أن كل حشود القوات الإسرائيلية تتجه إلى الجبهة المصرية، بينما هي خفت كثيرًا أمام الجبهة السورية. وهكذا فإن مصر أصبحت الآن هي الجبهة، وأنا أريد أن تكون هذه الحقيقة محددة أمامهم لكي يرتبوا عليها تصرفاتهم في الأيام القادمة.
ورد السفير قائلاً بالنص:
إن الحكومة أبلغتكم بما كان لديها من معلومات وقت إبلاغكم بها. ونحن الآن نرى أن الموقف في الشرق الأوسط وصل إلى درجة عالية من التوتر. ومن الواضح لنا أن الإسرائيليين لم يكن في وسعهم أن يتصرفوا على النحو الذي يتصرفون به الآن إذا لم يكونوا واثقين تمامًا من تأييد القوى الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة تؤيدهم في العملية. ومن المحقق لنا طبقًا لتحليلاتنا أن الإمبرياليين يحاولون استعادة نفوذهم ودورهم القديم في العالم العربي. ونحن نعتقد أن إسرائيل في هذه العملية هي الركيزة التي تستند إليها سياساتهم العدوانية ضد البلدان العربية المستقلة والمعادية للاستعمار.
واستطرد السفير السوفيتي قائلاً بالنص:
لكم يا سيادة الرئيس أنتم وقيادة العالم العربي أن تعرفوا أن الاتحاد السوفيتي وحكومته يقفون بحزم وراء الدول العربية المستقلة، وأن الاتحاد السوفيتي سوف ينتهج في الأيام القليلة القادمة خطًا حازمًا، وأنه إذا تطورت الأمور في اتجاه إسرائيل ــ فإننا سنتخذ الخطوات اللازمة ضد العدوان بواسطة القوى الاستعمارية ومنها بالتبعية.
وفي صباح 25 مايو، تلقى الرئيس عبد الناصر تقارير من وزارة الداخلية مؤداها أن عملية بدأت - بهدوء - لترحيل الرعايا الأمريكيين في مصر، وبعد ساعات كانت الصحف الأمريكية تحمل هذا التأكيد. كما تلقى خبراً بأن الولايات المتحدة دعت إلى تكوين "قوة بحرية مشتركة" على أساس أن قيام مصر بتقييد الملاحة الاسرائيلية في الخليج يعتبر تعرضاً لمبدأ حرية البحار وتلقى أيضاً تقريراً من المخابرات الحربية المصرية في غزة بأن الجنرال "أودبول" كبير مراقبي الهدنة قال لضباطه أن "إسرائيل متشوقة للحرب الأن". كما كانت مجموعة الاستطلاع والتنصت اللاسلكي البحري بقيادة العقيد "محمود نديم" قد التقطت إشارات مفادها توجه عدد من الوحدات البحرية الأمريكية والبريطانية إلى البحر المتوسط وتوجه حاملة طائرات إضافية إليها.
وفي نفس اليوم دُعي "أبا أيبان" وزير الخارجية الاسرائيلي إلى غرفة عمليات الشرق الأوسط في البنتاجون حيث اجتمع مع "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال "أيرل هويلر" وأثناء استعراض كل الاحتمالات وجه الجنرال "هويلر" حديثه إلى "أبا أيبان" بقوله: "سواء بدأ المصريون الحرب أو أنتم فالنتيجة واحدة. فنحن ليس لدينا شك في مدى كفاءتكم" ثم أضاف "حسابات المعركة كلها في صالحكم. هذه تقديرات جميع خبراءنا ولم يعترض منهم أحد". ذكر "ريتشارد هيلمز" مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أيضاً أنه تعجب من استعجال الإسرائيليين. ففي ذلك الوقت كانوا يطلبون ما يحتاجونه من المخازن الأمريكية ليس بالأنواع ولكن بالأرقام الكودية السرية للأسلحة!
في اليوم التالي تقابل "أبا أيبان" مع الرئيس الأمريكي "جونسون" والذي طلب من "أيبان" الصبر قليلاً حتى يضمن التأييد العالمي وتحييد الاتحاد السوفيتي، وتعهد جونسون بالوقوف بجانب إسرائيل وأنه سوف يستعمل كل وسائل القوة المتاحة لدعم موقفهم. ودارت العجلة التي أدت في النهاية إلى "ضربة صهيون" وهو الإسم الكودي للهجوم الإسرائيلي في 67.
كان عام 1967 عامًا مفصليًا في تاريخ الشرق الأوسط، حيث أدت تصرفات متسرعة وقرارات استراتيجية إلى حرب يونيو التي غيرت ملامح المنطقة. عبد الناصر، تحت ضغوط داخلية وخارجية، اتخذ قرارات أثرت على مسار الأحداث، بينما استغلت إسرائيل الفرصة لتعزيز موقعها. الحرب كشفت عن أهمية الدقة في اتخاذ القرارات والتحالفات الدولية في أوقات الأزمات، وتركت آثارًا عميقة على الصراع العربي الإسرائيلي.
التعديل الأخير: